لَوْ رَهَنَ نِصْفَ دَارٍ وَسَلَّمَ الدَّارَ إلَى الْمُرْتَهِنِ وَهَلَكَتْ لَمْ يَذْهَبْ مِنْ الدَّيْنِ شَيْءٌ، وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي نَوَادِرِ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ فِي الرَّهْنِ الْفَاسِدِ لَا يَذْهَبُ بِهَلَاكِهِ الدَّيْنُ، وَفِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ لَوْ اشْتَرَى مُسْلِمٌ خَمْرًا وَرَهَنَ بِثَمَنِهِ رَهْنًا فَضَاعَ الرَّهْنُ عِنْدَهُ لَا يُضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ رَهْنٌ بَاطِلٌ فِي الْأَوَّلِ يَنْعَقِدُ فَاسِدًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَسَيَأْتِي لَهُ مَزِيدُ بَيَانٍ عِنْدَ قَوْلِهِ مَضْمُونٌ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ، وَفِي الْكُبْرَى لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَضْمَنَ الْفَضْلَ عَنْ الدَّيْنِ فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (هُوَ حَبْسُ شَيْءٍ بِحَقٍّ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْهُ كَالدَّيْنِ) ، وَهَذَا حَدُّهُ فِي الشَّرْعِ، كَذَا قَالَ الشَّارِحُ، وَقَالَ قَوْلُهُ كَالدَّيْنِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ حَقٌّ أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الدَّيْنِ لِعَدَمِ تَعْيِينِهِ. وَأَمَّا الْعَيْنُ فَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْ الرَّهْنِ وَلَا يَجُوزُ الرَّهْنُ بِهَا إلَّا إذَا كَانَتْ مَضْمُونَةً بِنَفْسِهَا كَالْمَغْصُوبِ وَالْمَهْرِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَبَدَلِ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ الْأَصْلِيَّ فِيهَا الْمِثْلُ أَوْ الْقِيمَةُ وَرَدُّ الْعَيْنِ لَا مَخْلَصَ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَلِهَذَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ وَالْإِبْرَاءُ عَنْ قِيمَتِهِ وَيَمْتَنِعُ وُجُوبُ الذَّكَاةِ عَمَّنْ هُوَ فِي يَدِهِ وَمَالُهُ بِقَدْرِ الْقِيمَةِ، وَلَوْ كَانَ الْوَاجِبُ هُوَ الْعَيْنُ لَمَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ، وَعِنْدَ الْبَعْضِ، وَإِنْ كَانَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ رَدَّ الْعَيْنِ وَرَدَّ الْقِيمَةِ مَخْلَصٌ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ إلَّا بَعْدَ الْهَلَاكِ بِالْقَبْضِ السَّابِقِ وَلِهَذَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ بِالْقَبْضِ فَيَكُونُ رَهْنًا لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهِ فَيَصِحُّ كَمَا هُوَ فِي الْكَفَالَةِ بِخِلَافِ الْأَعْيَانِ الْأَمَانَةِ اهـ.
فَإِنْ قِيلَ هَذَا التَّعْرِيفُ لِلرَّهْنِ التَّامِّ أَوْ اللَّازِمِ وَإِلَّا فَفِي انْعِقَادِ الرَّهْنِ لَا يَلْزَمُ الْحَبْسُ بَلْ ذَلِكَ بِالْقَبْضِ أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ بِانْعِقَادِ مَعْنَى الرَّهْنِ مَعْنَى جَعْلِ الشَّيْءِ مَحْبُوسًا بِحَقٍّ إلَّا أَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ لِلْعَاقِدِ الرُّجُوعَ عَنْهُ مَا لَمْ يَقْبِضْ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ فَقَبْلَ الْقَبْضِ يُوجَدُ مَعْنَى الْحَبْسِ وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ إلَّا بِالْقَبْضِ وَالْمَأْخُوذُ فِي التَّعْرِيف الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ لِلْمُرْتَهِنِ إنَّمَا هُوَ نَفْسُ الْحَبْسِ لَا لُزُومُهُ فَيَصْدُقُ هَذَا التَّعْرِيفُ عَلَى الرَّهْنِ قَبْلَ تَمَامِهِ وَلُزُومِهِ أَيْضًا، وَلَوْ قَالَ هُوَ عَقْدٌ يَرِدُ عَلَى مَعْنَى حَبْسِ الْعَيْنِ بِحَقٍّ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْهُ لَكَانَ أَوْلَى، وَقَوْلُنَا عَلَى مَعْنَى حَبْسٍ إلَى آخِرِهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يُوجِبُ حَقِيقَةَ الْحَبْسِ؛ لِأَنَّهَا بِالْقَبْضِ بَلْ يُوجِبُ نَفْسَ الْحَبْسِ، وَقَوْلُ الْإِمَامِ الزَّيْلَعِيِّ أَنَّ قَوْلَهُ كَالدَّيْنِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ الْمُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الرَّهْنِ لِعَدَمِ تَعْيِينِهِ قُلْنَا الْمُتَبَادِرُ إلَيْهِ مِنْ الْكَافِي أَنَّهُ يَجُوزُ الرَّهْنُ بِغَيْرِ الدَّيْنِ أَيْضًا كَمَا ذَكَرْت أَمْثَالَهُ، وَقَوْلُهُ شَيْءٌ صَادِقٌ عَلَى مَا لَوْ عُيِّنَ ذَلِكَ أَوَّلًا وَعَلَى مَا إذَا كَانَ عَلَى كُلِّ الدَّيْنِ أَوْ بَعْضِهِ وَعَلَى مَا إذَا قَبَضَ الدَّيْنَ أَوَّلًا قَالَ قَاضِي خَانْ رَجُلٌ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ ثَوْبَيْنِ، وَقَالَ خُذْ أَيَّهُمَا شِئْت بِالْمِائَةِ الَّتِي عَلَيَّ فَأَخَذَهُمَا وَنَحَلَتْ فِي يَدِهِ قَالَ الثَّالِثُ لَا يَذْهَبُ مِنْ الدَّيْنِ شَيْءٌ وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ عَلَيْهِ عِشْرُونَ دِرْهَمًا يَدْفَعُ الْمَدْيُونُ إلَى الطَّالِبِ مِائَةً، وَقَالَ خُذْ مِنْهَا عِشْرِينَ بِدَيْنِك فَضَاعَتْ الْمِائَةُ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا عِشْرِينَ ضَاعَتْ مِنْ مَالِ الْمَدْيُونِ وَالدَّيْنُ عَلَى حَالِهِ، وَلَوْ قَالَ خُذْ أَحَدَهُمَا رَهْنًا بِدَيْنِك فَأَخَذَهُمَا وَنَحَلَتْ فِي يَدِهِ وَقِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ قَالَ الثَّالِثُ يَذْهَبُ نِصْفُ قِيمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالدَّيْنِ إنْ كَانَ مِثْلَ الدَّيْنِ رَجُلٌ عَلَيْهِ مِائَةٌ فَأَعْطَى الدَّائِنَ ثَوْبًا، وَقَالَ خُذْ هَذَا بِبَعْضِ حَقِّك فَقَبَضَهُ وَهَلَكَ يَهْلِكُ بِقِيمَتِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ لَمَّا شَاءَ الْمُرْتَهِنُ أَخَذَ الرَّهْنَ، وَلَمْ يَدْفَعْ شَيْئًا فَضَاعَ فِي يَدِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ عَلَيْهِ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَقْرَضَ آخَرَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، فَقَالَ الْمُقْرِضُ لَا يَكْفِيَك هَذَا الْقَدْرُ وَلَكِنْ أَبْعَثُ لَك مَا يَكْفِيَك فَبَعَثَ فَدَفَعَ إلَيْهِ فَضَاعَ فِي يَدِهِ فَعَلَى الْمُرْتَهِنِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَةِ الرَّهْنِ وَمِنْ الْخَمْسِينَ وَاشْتِرَاطُ خِيَارِ الشَّرْطِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الرَّهْنِ غَيْرُ جَائِزٍ فِي الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ فَسْخَهُ مِنْ غَيْرِ خِيَارِ الشَّرْطِ فَلَا فَائِدَةَ فِي اشْتِرَاطِهِ وَلِلرَّاهِنِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْخِيَارِ فِيهِ وَهُوَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ فَيَصِحُّ إثْبَاتُ الْخِيَارِ لَهُ فِيهِ كَذَا فِي الْأَصْلِ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَزِمَ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ وَيَتِمُّ بِقَبْضِهِ مَحُوزًا مُفَرَّغًا مُمَيَّزًا) ، وَهَذَا سَهْوٌ، فَإِنَّ الرَّهْنَ لَا يَلْزَمُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ وَلَكِنَّهُ يَنْعَقِدُ بِهِمَا وَيَتِمُّ بِالْقَبْضِ فَيَلْزَمُ بِهِ قَالَ فِي الْعِنَايَةِ رُكْنُ الرَّهْنِ الْإِيجَابُ وَهُوَ قَوْلُ الرَّاهِنِ رَهَنْت وَالْقَبُولُ وَهُوَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنُ قَبِلْت، ثُمَّ عَلَّلَ بِأَنَّهُ عَقْدٌ وَالْعَقْدُ يَنْعَقِدُ بِهِمَا وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ بِأَنَّ صَاحِبَ الْمُحِيطِ صَرَّحَ بِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ يَتِمُّ بِالْإِيجَابِ فَقَطْ وَهُوَ قَوْلُ غَالِبِ الْمَشَايِخِ، وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَلْزَمُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ. وَقَوْلُهُ مَحُوزًا مُفْرَغًا مُمَيَّزًا اُحْتُرِزَ بِالْأَوَّلِ عَنْ الْمُشَاعِ، وَبِالثَّانِي عَنْ الْمَشْغُولِ، وَبِالثَّالِثِ عَنْ الْمُتَّصِلِ إذَا قَبَضَهُ كَذَلِكَ، ثُمَّ هَذَا بَيَانُ الرَّهْنِ بِالْقَوْلِ وَسَنُبَيِّنُ مَا يَصِيرُ رَهْنًا بِالْفِعْلِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَالتَّخْلِيَةُ فِيهِ، وَفِي الْبَيْعِ قَبْضٌ) قَالَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute