مَشْرُوعِيَّةِ الْقِصَاصِ رَفْعُ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَأَمَّا مَعْنَاهَا لُغَةً فَهِيَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا يَجْنِيهِ الْمَرْءُ مِنْ شَرٍّ وَمَا اكْتَسَبَهُ تَسْمِيَةً لِلْمَصْدَرِ مِنْ جَنَى عَلَيْهِ شَرًّا وَهُوَ عَامٌّ إلَّا أَنَّهُ خُصَّ بِمَا يَحْرُمُ مِنْ الْفِعْلِ وَأَصْلُهُ مِنْ جَنَى الثَّمَرَ وَهُوَ أَخْذُهُ مِنْ الشَّجَرَةِ وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ فَهُوَ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ شَرْعًا سَوَاءٌ كَانَ مِنْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ لَكِنَّهُ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ يُرَادُ بِهِ عِنْدَ إطْلَاقِهِ اسْمُ الْجِنَايَةِ الْوَاقِعَةِ فِي النَّفْسِ وَالْأَطْرَافِ مِنْ الْآدَمِيِّ وَالْجِنَايَةُ الْوَاقِعَةُ فِي الْمَالِ تُسَمَّى غَصْبًا وَالْجِنَايَةُ الْوَاقِعَةُ مِنْ الْمُحْرِمِ أَوْ فِي الْحَرَمِ عَلَى الصَّيْدِ جِنَايَةُ الْمُحْرِمِ. وَأَمَّا رُكْنُهُ فَهُوَ الْقَتْلُ وَهُوَ فِعْلٌ مُضَافٌ إلَى الْعِبَادِ تَزُولُ بِهِ الْحَيَاةُ بِمُجَرَّدِ الْعَادَةِ. وَأَمَّا شَرْطُهُ فَالْمُمَاثَلَةُ وَالْمُعَادَلَةُ فِي الِاسْتِيفَاءِ؛ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ مَشْرُوطَةٌ فِي أَجْزِيَةِ السَّيِّئَاتِ وَضَمَانِ الْعُدْوَانَاتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا} [الأنعام: ١٦٠] وَلِأَنَّ فِي إيجَابِ النَّاقِضِ بَخْسًا بِحَقِّ الْمَظْلُومِ.
وَفِي إيجَابِ الزِّيَادَةِ جَوْرٌ عَلَى الظَّالِمِ وَالنَّجَسُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَالْحَيْفُ حَرَامٌ فَكَانَ الْإِنْصَافُ وَالِانْتِصَافُ فِي إيجَابِ الْمُمَاثَلَةِ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِي مَحَالِّ الْأَفْعَالِ فِي الْأَنْفُسِ فِي نَوْعِ ضَرُورَةٍ وَهُوَ أَنَّ قَتْلَ الْوَاحِدِ بِطَرِيقِ الِاجْتِمَاعِ غَالِبٌ وُجُودًا وَيَظْهَرُ مِنْ الْأَفْرَادِ نَادِرًا وُقُوعُهَا فَقَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ، وَلَوْ اعْتَبَرْنَا الْمُمَاثَلَةَ فِي مَحَلِّ الْأَفْعَالِ لَأَدَّى إلَى فَتْحِ بَابِ الْعُدْوَانِ وَسَدِّ بَابِ الْقِصَاصِ وَأَيَّةُ فَائِدَةٍ فِي شَرْعِ الْقِصَاصِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْأَنْفُسِ لِلضَّرُورَةِ وَبَقِيَتْ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْأَطْرَافِ مُعْتَبَرَةً، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى إتْلَافِ الطَّرَفِ لَيْسَ بِغَالِبٍ بَلْ هُوَ نَادِرٌ.
وَأَمَّا حُكْمُهُ فَهُوَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ وَالْإِثْمِ، قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْقَتْلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: عَمْدٌ وَخَطَأٌ وَشِبْهُ عَمْدٍ، فَالْعَمْدُ وَهُوَ أَنْ يَتَعَمَّدَ ضَرْبَهُ بِسِلَاحٍ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ مِمَّا لَهُ حَدٌّ يَقْطَعُ وَيَجْرَحُ؛ لِأَنَّ الْعَمْدَ وَالْقَصْدَ مِمَّا لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ وَلَكِنَّ الضَّرْبَ بِآلَةٍ جَارِحَةٍ قَابِلَةٍ قَاطِعَةٍ دَلِيلٌ عَلَى الْقَتْلِ فَيُقَامُ مَقَامَ الْعَمْدِ، ثُمَّ آلَةُ الْقَتْلِ عَلَى ضَرْبَيْنِ آلَةُ السِّلَاحِ وَغَيْرُ السِّلَاحِ أَمَّا السِّلَاحُ فَكُلُّ آلَةٍ جَارِحَةٍ كَالسَّيْفِ وَالسِّكِّينِ وَنَحْوِهِمَا فَيُقْتَلُ بِهِ وَهُوَ عَمْدٌ مَحْضٌ، وَلَوْ قَتَلَهُ بِحَدِيدٍ لَا حَدَّ لَهُ، نَحْوُ أَنْ يَضْرِبَهُ بِعَمُودٍ أَوْ بِصَنْجَةٍ حَدِيدٍ أَوْ نُحَاسٍ أَوْ صُفْرٍ فَعَلَى رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ يَكُونُ عَمْدًا مَحْضًا؛ لِأَنَّ الْحَدِيدَ إذَا لَمْ يَجْرَحْ يَكُونُ عَمْدًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا قَوَدَ إلَّا مِنْ حَدِيدٍ» وَالْحَدِيدُ أَصْلٌ فِي الْقَتْلِ بِهِ وَأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي إيجَابِ الْقَوَدِ بِهِ وَالْحُكْمُ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ النَّصِّ لَا بِالْمَعْنَى وَالنَّصُّ الْوَارِدُ فِي الْحَدِيدِ وَالسَّيْفِ يَكُونُ وَارِدًا فِيمَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ فِي الِاسْتِعْمَالِ دَلَالَةً وَالنُّحَاسُ يُسْتَعْمَلُ مِنْهُ السِّلَاحُ كَمَا يُسْتَعْمَلُ مِنْ الْحَدِيدِ فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ ثَابِتًا بِدَلَالَةِ النَّصِّ لَا بِعَيْنِهِ، وَلَوْ ضَرَبَهُ بِصَنْجَةٍ رَصَاصٍ لَا يَكُونُ عَمْدًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ مِنْهُ اسْتِعْمَالَ الْحَدِيدِ وَهُوَ السِّلَاحُ، وَأَمَّا غَيْرُ السِّلَاحِ كَاللِّيطَةِ وَالْمَرْوَةِ وَالرُّمْحِ الَّذِي لَا سِنَانَ فِيهِ وَنَحْوِهِ إذَا جَرَحَهُ فَهُوَ عَمْدٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا فَرَّقَ الْأَجْزَاءَ عَمِلَ عَمَلَ السَّيْفِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْحَدِيدِ بِمَا هُوَ مُعْتَادٌ لَهُ فَلَا تَكُونُ شُبْهَةُ الْعَمْدِ اعْتِبَارَ قُصُورِ الْآلَةِ وَلِهَذَا قَالَ إذَا أَحْرَقَ رَجُلًا بِالنَّارِ يُقْتَلُ بِهِ؛ لِأَنَّ النَّارَ تُفَرِّقُ الْأَجْزَاءَ وَتُبَعِّضُهَا وَتَعْمَلُ عَمَلَ الْحَدِيدِ، وَأَمَّا شِبْهُ الْعَمْدِ وَهُوَ الْقَتْلُ بِآلَةٍ لَمْ تُوْضَعْ لَهُ، وَلَمْ يَحْصُلْ بِهِ الْمَوْتُ غَالِبًا مِثْلُ السَّوْطِ الصَّغِيرِ وَالْعَصَا الصَّغِيرَةِ وَنَحْوِهِ.
فَأَمَّا الْقَتْلُ بِالْعَصَا الْكَبِيرِ وَبِكُلِّ آلَةٍ مُثْقَلَةٍ يَحْصُلُ بِهَا الْمَوْتُ غَالِبًا لَكِنَّهَا غَيْرُ جَارِحَةٍ قَاطِعَةٍ بَلْ هِيَ مُدَقِّقَةٌ مُكَسِّرَةٌ وَهُوَ شِبْهُ الْعَمْدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - خِلَافًا لَهُمْ لِمَا يَأْتِي. وَأَمَّا الْخَطَأُ وَهُوَ مَا لَوْ تَعَمَّدَ شَبَهًا فَيُصِيبُ آدَمِيًّا أَوْ يَقْصِدُهُ فَيَظُنُّهُ صَيْدًا أَوْ حَرْبِيًّا، فَإِذَا هُوَ مُسْلِمٌ وَنَوْعُ مَا هُوَ مُلْحَقٌ بِالْخَطَأِ كَالنَّائِمِ إذَا انْقَلَبَ عَلَى إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ، وَكَذَا الْقَتْلُ بِطَرِيقِ التَّسَبُّبِ كَحَفْرِ الْبِئْرِ وَوَضْعِ الْحَجَرِ فِي الطَّرِيقِ الْمَمَرِّ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَسَبَّبَ لِلْقَتْلِ صَارَ كَالْمُوقِعِ وَالدَّافِعِ وَلَمَّا لَمْ يَقْصِدْ الْقَتْلَ هُوَ كَالْخَطَأِ فِي الْحُكْمِ وَلَا يَكُونُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ شِبْهُ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ لَا يَخْتَصُّ إتْلَافُهُ بِآلَةٍ دُونَ آلَةٍ بَلْ يَخْتَصُّ بِآلَةٍ جَارِحَةٍ قَاطِعَةٍ، فَأَمَّا الْقَتْلُ يَخْتَصُّ بِآلَاتٍ بَعْضُهَا جَارِحَةٌ قَاطِعَةٌ وَبَعْضُهَا لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ النَّفْسِ بِاخْتِلَافِ الْآلَاتِ، وَأَمَّا حُكْمُهَا فَسَيَأْتِي، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْقَتْلَ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: عَمْدٌ وَخَطَأٌ وَشِبْهُ عَمْدٍ وَمَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَأِ وَالْقَتْلُ بِسَبَبٍ، قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَجْهُ الِانْحِصَارِ فِي هَذِهِ الْخَمْسَةِ هُوَ أَنَّ الْقَتْلَ إذَا صَدَرَ عَنْ إنْسَانٍ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ حَصَلَ بِسِلَاحٍ أَوْ بِغَيْرِ سِلَاحٍ، وَإِنْ حَصَلَ بِسِلَاحٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِهِ قَصْدُ الْقَتْلِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ فَهُوَ عُدْوَانٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ خَطَأٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِسِلَاحٍ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ جَارِيًا مَجْرَى الْخَطَأِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ فَهُوَ شِبْهُ الْعَمْدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ قَصْدُ التَّأْدِيبِ أَوْ الضَّرْبِ أَوْ لَا.
فَإِنْ كَانَ فَهُوَ شِبْهُ الْعَمْدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ جَارِيًا مَجْرَى الْخَطَأِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ فَهُوَ الْخَطَأُ، وَإِنْ لَمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute