الْآخَرِ كَمَا لَوْ عَفَا الشَّاهِدُ عَنْ نَصِيبِهِ، وَأَمَّا الدِّيَةُ إنْ تَصَادَقَا فَلِلشَّاهِدِ نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالتَّصَادُقِ وَالْمُوَافَقَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَإِنْ كَذَّبَاهُ فَلَا شَيْءَ لِلشَّاهِدِ، وَيَجِبُ لِلْآخَرِ نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا شَهِدَ بِالْعَفْوِ فَقَدْ أَقَرَّ بِبُطْلَانِ حَقِّهِ فِي الْقِصَاصِ فَصَحَّ وَادَّعَى انْقِلَابَ نَصِيبِ نَفْسِهِ مَالًا فَلَمْ يُصَدَّقْ وَيُحَوَّلُ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا؛ لِأَنَّ تَعَذُّرَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي نَصِيبِهِ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْقِصَاصِ مُضَافٌ إلَى شَهَادَةٍ بِالْعَفْوِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْعَفْوِ مِنْهُ.
وَإِنْ كَذَّبَهُ صَاحِبُهُ وَصَدَّقَهُ الْقَاتِلُ ضَمِنَ الدِّيَةَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَدَّقَهُ فَقَدْ أَقَرَّ لَهُ بِنِصْفِ الدِّيَةِ فَلَزِمَهُ وَادَّعَى بُطْلَانَ حَقِّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِالْعَفْوِ فَلَمْ يَصْدُقْ نَصِيبُ السَّاكِتِ مَالًا؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِ الشَّاهِدَيْنِ نَصِيبَهُ تَحَوَّلَ مَالًا بِعَفْوِ صَاحِبِهِ وَالْقَاتِلُ صَدَّقَهُ فِيهِ فَوَجَبَ لَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ عَلَى الْقَاتِلِ، وَفِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ لَمْ يَسْقُطْ مِنْ جِهَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَفْوُهُ فِي حَقِّهِ لِتَكْذِيبِهِ، وَإِنَّمَا سَقَطَ بِإِقْرَارِ الشَّاهِدِ فَيَنْقَلِبُ نَصِيبُهُ مَالًا، وَإِنْ كَذَّبَهُ الْقَاتِلُ وَصَدَّقَهُ صَاحِبُهُ ضَمِنَ نِصْفَ الدِّيَةِ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَلَا يَضْمَنُ لِلشَّاهِدِ شَيْئًا وَقَالَ زُفَرُ: لَا شَيْءَ لَهُمَا؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ ثَبَتَ فِي حَقِّهِمَا بِتَصَادُقِهِمَا، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّ الْقَاتِلِ لِتَكْذِيبِهِ فَسَقَطَ نَصِيبُ الشَّاهِدِ وَلَمْ يَجِبْ لِتَكْذِيبِ نِصْفِ الدِّيَةِ فَيَبْرَأُ الْقَاتِلُ وَلَنَا أَنَّ الْقَاتِلَ لَمَّا أَكْذَبَ الشَّاهِدَ فِي الشَّهَادَةِ بِالْعَفْوِ، فَقَدْ كَذَّبَهُ فِيمَا ادَّعَى عَلَيْهِ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ وَأَقَرَّ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ نَصِيبَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ إنَّمَا سَقَطَ لِمَعْنًى جَاءَ مِنْ قِبَلِ الشَّاهِدِ لَا مِنْ جِهَتِهِ، فَإِنَّهُ أَنْكَرَ عَفْوَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ لَمَّا صَدَّقَ الشَّاهِدَ فِي شَهَادَتِهِ فَقَدْ أَقَرَّ بِذَلِكَ الْمَالِ لِلشَّاهِدِ وَالْمُقَرُّ لَهُ بِالْمَالِ إذَا قَالَ لِلْمُقِرِّ مَا أَقْرَرْت بِهِ لَيْسَ لِي، وَإِنَّمَا هُوَ لِفُلَانٍ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ لِفُلَانٍ كَمَنْ أَقَرَّ بِمِائَةٍ لِزَيْدٍ فَقَالَ زَيْدٌ: هِيَ لِعَمْرٍو صَارَتْ الْمِائَةُ لِعَمْرٍو فَكَذَا هَذَا.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي لَوْ شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِالْعَفْوِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَشْهَدَا مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبًا، فَإِنْ شَهِدَا مَعًا إنْ كَذَّبَهُمَا الْقَاتِلُ بَطَلَ حَقُّهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَقَرَّ بِسُقُوطِ الْقِصَاصِ فِي نَصِيبِهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَأَنَّهُ وَجَبَ لَهُ عَلَى الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَعَمَ أَنَّ حَقَّ الْعَافِي فِي الْقِصَاصِ قَدْ سَقَطَ، وَانْقَلَبَ نَصِيبُهُ مَالًا، فَصَحَّ إقْرَارُهُمَا بِسُقُوطِ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يُتَّهَمَانِ فِي حَقِّهِمَا وَلَمْ يَصِحَّ بِالْمَالِ عَلَى الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّهُ دَعْوَى وَالدَّعْوَى لَا تَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَكَذَلِكَ إنْ صَدَّقَهُمَا الْقَاتِلُ؛ لِأَنَّهُ مَتَى صَدَّقَ أَحَدَهُمَا فِي دَعْوَاهُ، فَقَدْ كَذَّبَ الْآخَرَ فِي دَعْوَاهُ مِنْ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْعَافِيَ لَا يَجِبُ لَهُ شَيْءٌ، فَقَدْ تَعَارَضَ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ بِالشَّكِّ، فَصَارَ كَأَنَّهُ سَكَتَ، وَإِنْ صَدَّقَهُمَا عَلَى التَّعَاقُبِ فَلَهُمَا دِيَةٌ كَامِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَدَّقَ الْأَوَّلَ فِي دَعْوَاهُ الْمَالَ فَقَدْ كَذَّبَ الثَّانِيَ فِي دَعْوَاهُ الْمَالَ فَإِذَا صَدَّقَ الثَّانِيَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ صَدَّقَهُ بَعْدَمَا كَذَّبَهُ وَالتَّصْدِيقُ بَعْدَ التَّكْذِيبِ جَائِزٌ وَبِتَصْدِيقِ الثَّانِي إنْ صَارَ مُكَذَّبًا فِيمَا ادَّعَاهُ إلَّا أَنَّهُ كَذَّبَهُ بَعْدَمَا نَفَذَ حُكْمُ التَّصْدِيقِ بِالسُّكُوتِ عَلَيْهِ، وَكَانَ التَّكْذِيبُ مِنْهُ رُجُوعًا عَنْ إقْرَارِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ، وَأَمَّا إذَا شَهِدَ مُتَعَاقِبًا، فَإِنْ كَذَّبَهُمَا الْقَاتِلُ، فَلِلشَّاهِدِ آخِرًا نِصْفُ الدِّيَةِ وَلَا شَيْءَ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ لَمَّا كَذَّبَ الْأَوَّلَ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ لِلثَّانِي نِصْفَ الدِّيَةِ وَلَمْ يَثْبُتْ عَفْوُهُ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ تَكْذِيبُ الْقَاتِلِ فِي إقْرَارِهِ فَوَجَبَ لَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ وَالْأَوَّلُ قَدْ أَقَرَّ بِسُقُوطِ الْقِصَاصِ فِي نَصِيبِهِ بِنِصْفِ دِيَةٍ وَجَبَتْ لَهُ عَلَى الْقَاتِلِ وَقَدْ كَذَّبَهُ الْقَاتِلُ فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَثْبُتْ وَكَذَّبَهُ إنْ صَدَّقَهُمَا مَعًا فَلَا شَيْءَ لِلْأَوَّلِ.
وَلِلثَّانِي نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ تَعَارَضَ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ مِنْهُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَتَسَاقَطَا فَصَارَ كَأَنَّهُ سَكَتَ، وَلَوْ سَكَتَ يَجِبُ لِلثَّانِي نِصْفُ الدِّيَةِ وَلَا يَبْطُلُ بِتَكْذِيبِ الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّ تَكْذِيبَ الْقَاتِلِ بَاطِلٌ فِي حَقِّ الثَّانِي، وَإِنْ صَدَّقَهُ الثَّانِي وَكَذَّبَهُ الْأَوَّلُ فَلِلثَّانِي نِصْفُ الدِّيَةِ وَلَا شَيْءَ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ عَفْوُ الْأَوَّلِ فِي حَقِّ الْقَاتِلِ بِتَصْدِيقِ الثَّانِي فِي شَهَادَتِهِ وَلَمْ يَثْبُتْ عَفْوُ الثَّانِي بِتَكْذِيبِ الْأَوَّلِ فِي شَهَادَتِهِ، وَلَوْ عَفَا أَحَدُ الْوَلِيَّيْنِ وَعَلِمَ الْآخَرُ أَنَّ الْقَتْلَ حَرَامٌ عَلَيْهِ فَقَتَلَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَلَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِ الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ تَمَحَّضَ حَرَامًا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْحُرْمَةِ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ عَلِمَ بِالْعَفْوِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ظَنَّهُ اسْتَنَدَ إلَى دَلِيلٍ يُوجِبُ الِاشْتِبَاهَ، وَهُوَ الْقِيَاسُ عَلَى سَائِرِ الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ اثْنَيْنِ إذَا أَبْرَأَ أَحَدَهُمَا لَا يَبْطُلُ حَقُّ الْآخَرِ فَكَانَتْ ظَنًّا فِي مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً لِسُقُوطِ الْقِصَاصِ؛ وَلِهَذَا اشْتَبَهَ عَلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِهِ فِي الْعِلْمِ حَيْثُ شَاوَرَ ابْنَ مَسْعُودٍ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِنْ أَشْهَدَا أَنَّهُ ضَرَبَهُ فَلَمْ يَزَلْ صَاحِبَ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ يُقْتَصُّ) ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً، وَفِي ذَلِكَ الْقِصَاصُ عَلَى مَا عُرِفَ وَالشَّهَادَةُ عَلَى قَتْلِ الْعَمْدِ يَتَحَقَّقُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُخْطِئًا لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يُطْلِقُوهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute