وَرَسُولُهُ فَسُمِّيَ تَشَهُّدًا تَسْمِيَةً لِلْكُلِّ بِاسْمِ جُزْئِهِ الْأَشْرَفِ؛ لِأَنَّ التَّشَهُّدَ أَشْرَفُ أَذْكَارِهِ، ثُمَّ فِي تَفْسِيرِ أَلْفَاظِهَا أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ، أَحْسَنُهَا: أَنَّ التَّحِيَّاتِ الْعِبَادَاتُ الْقَوْلِيَّةُ وَالصَّلَوَاتِ الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ وَالطَّيِّبَاتِ الْعِبَادَاتُ الْمَالِيَّةُ فَجَمِيعُ الْعِبَادَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُ وَلَا يَتَقَرَّبُ بِشَيْءٍ مِنْهُ إلَى مَا سِوَاهُ، ثُمَّ هُوَ عَلَى مِثَالِ مَنْ يَدْخُلُ عَلَى الْمُلُوكِ فَيُقَدِّمُ الثَّنَاءَ أَوَّلًا، ثُمَّ الْخِدْمَةَ ثَانِيًا، ثُمَّ بَذْلَ الْمَالِ ثَالِثًا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ حِكَايَةُ سَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَهِيَ ثَلَاثَةٌ بِمُقَابَلَةِ الثَّلَاثِ الَّتِي أَثْنَى بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى رَبِّهِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، وَالسَّلَامُ مِنْ سَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ أَوْ مِنْ تَسْلِيمِهِ مِنْ الْآفَاتِ وَإِلَّا ظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّحْمَةِ هُنَا نَفْسُ الْإِحْسَانِ مِنْهُ تَعَالَى لَا إرَادَتُهُ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ الدُّعَاءُ بِهَا وَالدُّعَاءُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُمْكِنِ وَالْإِرَادَةُ قَدِيمَةٌ بِخِلَافِ نَفْسِ الْإِحْسَانِ، وَالْبَرَكَةُ النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ مِنْ الْخَيْرِ
وَيُقَالُ: الْبَرَكَةُ جِمَاعُ كُلِّ خَيْرٍ، ثُمَّ إنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى سَهْمًا مِنْ هَذِهِ الْكَرَامَةِ لِإِخْوَانِهِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَصَالِحِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ؛ لِأَنَّهُ يَعُمُّهُمْ كَمَا شَهِدَتْ بِهِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ حَيْثُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فَإِنَّكُمْ إذَا قُلْتُمُوهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالْعِبَادُ جَمْعُ عَبْدٍ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ شَيْءٌ أَشْرَفَ مِنْ الْعُبُودِيَّةِ، وَمُرَادُهُ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَإِلَّا فَهِيَ مُنْبِئَةٌ عَنْ النَّقْصِ لِدَلَاتِهَا عَلَى الْحَاجَةِ وَالِافْتِقَارِ كَمَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ فِي جَوَاهِرِ الْقُرْآنِ وَعَرَّفَهَا النَّسَفِيُّ بِأَنَّهَا الرِّضَا بِمَا يَفْعَلُهُ الرَّبُّ، وَالْعِبَادَةُ فِعْلُ مَا يُرْضِي الرَّبَّ وَأَنَّ الْعُبُودِيَّةَ أَقْوَى مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَسْقُطُ فِي الْعُقْبَى بِخِلَافِ الْعِبَادَةِ وَالصَّالِحُ هُوَ الْقَائِمُ بِحُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ وَلِذَا وَصَفَ الْأَنْبِيَاءُ نَبِيَّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِهِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فَقَالُوا: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَلِذَا قَالُوا لَا يَنْبَغِي الْجَزْمُ بِهِ فِي حَقِّ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ مِنْ غَيْرِ شَهَادَةِ الشَّارِعِ لَهُ بِهِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ هُوَ صَالِحٌ فِيمَا أَظُنُّ أَوْ فِي ظَنِّي خَوْفًا مِنْ الشَّهَادَةِ بِمَا لَيْسَ فِيهِ، وَأَشْهَدُ مَعْنَاهُ أَعْلَمُ وَأَتَيَقَّنُ أُلُوهِيَّةَ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَعُبُودِيَّةَ مُحَمَّدٍ وَرِسَالَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقُدِّمَتْ الْعُبُودِيَّةُ عَلَى الرِّسَالَةِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّهَا أَشْرَفُ صِفَاتِهِ، وَلِهَذَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا فِي قَوْله تَعَالَى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: ١] وَفِي قَوْله تَعَالَى {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: ١٠] وَاخْتِيرَ لَفْظُ الشَّهَادَةِ دُونَهُمَا؛ لِأَنَّهَا أَبْلَغُ فِي مَعْنَاهَا وَأَظْهَرُ مِنْهُمَا لِكَوْنِهَا مُسْتَعْمَلَةً فِي ظَوَاهِرِ الْأَشْيَاءِ وَبَوَاطِنِهَا، بِخِلَافِ الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ فَإِنَّهُمَا يُسْتَعْمَلَانِ غَالِبًا فِي الْبَوَاطِنِ فَقَطْ، وَلِذَا لَوْ أَتَى الشَّاهِدُ بِلَفْظِ أَعْلَمُ أَوْ أَتَيَقَّنُ مَكَانَ أَشْهَدُ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ
وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا بَعْضَ مَعَانِي التَّشَهُّدِ لِمَا أَنَّ الْمُصَلِّيَ يَقْصِدُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَعَانِيَهَا مُرَادَةً لَهُ عَلَى وَجْهِ الْإِنْشَاءِ مِنْهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمُجْتَبَى بِقَوْلِهِ: وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَقْصِدَ بِأَلْفَاظِ التَّشَهُّدِ مَعْنَاهَا الَّتِي وُضِعَتْ لَهَا مِنْ عِنْدِهِ كَأَنَّهُ يُحَيِّ اللَّهَ وَيُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى نَفْسِهِ وَأَوْلِيَائِهِ اهـ.
وَعَلَى هَذَا فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ السَّلَامُ عَلَيْنَا عَائِدٌ إلَى الْحَاضِرِينَ مِنْ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَالْمَلَائِكَةِ كَمَا نَقَلَهُ فِي الْغَايَةِ عَنْ النَّوَوِيِّ وَاسْتَحْسَنَهُ وَبِهَذَا يَضْعُفُ مَا ذَكَرَهُ فِي السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ أَنَّ قَوْلَهُ السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ حِكَايَةُ سَلَامِ اللَّهِ عَلَيْهِ لَا ابْتِدَاءُ سَلَامٍ مِنْ الْمُصَلِّي عَلَيْهِ وَاحْتَرَزَ بِتَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ غَيْرِهِ لِيُخْرِجَ تَشَهُّدَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهُوَ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ الطَّيِّبَاتُ الصَّلَوَاتُ لِلَّهِ السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ وَعَمِلَ بِهِ إلَّا أَنَّهُ زَادَ عَلَيْهِ (وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ) الثَّابِتُ فِي تَشَهُّدِ عَائِشَةَ الْمَرْوِيِّ فِي الْمُوَطَّإِ أَيْضًا وَبِهِ عُلِمَ تَشَهُّدُهَا وَخَرَجَ تَشَهُّدُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الْمَرْوِيِّ فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مَرْفُوعًا: التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَه
ــ
[منحة الخالق]
(قَوْلُهُ دُونَهُمَا) أَيْ دُونَ أَعْلَمُ وَأَتَيَقَّن.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute