عَنْ مَكَانِهِ إمَّا يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً أَوْ خَلْفَهُ وَالْجُلُوسُ مُسْتَقْبِلًا بِدْعَةٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يُتَنَفَّلُ بَعْدَهَا يَقْعُدُ مَكَانَهُ، وَإِنْ شَاءَ انْحَرَفَ يَمِينًا أَوْ شِمَالًا، وَإِنْ شَاءَ اسْتَقْبَلَهُمْ بِوَجْهِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِحِذَائِهِ مُصَلٍّ سَوَاءٌ كَانَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ أَوْ فِي الْأَخِيرِ وَالِاسْتِقْبَالُ إلَى الْمُصَلِّي مَكْرُوهٌ هَذَا مَا صَحَّحَهُ فِي الْبَدَائِعِ وَاخْتَارَ فِي الْخَانِيَّةِ وَالْمُحِيطِ اسْتِحْبَابَ أَنْ يَنْحَرِفَ عَنْ يَمِينِ الْقِبْلَةِ وَأَنْ يُصَلِّيَ فِيهَا، وَيَمِينُ الْقِبْلَةِ مَا بِحِذَاءِ يَسَارِ الْمُسْتَقْبِلِ وَيَشْهَدُ لَهُ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ «كُنَّا إذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْبَبْنَا أَنْ نَكُونَ عَنْ يَمِينِهِ يُقْبِلُ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ» .
(قَوْلُهُ وَجَهَرَ بِقِرَاءَةِ الْفَجْرِ وَأُولَى الْعِشَاءَيْنِ، وَلَوْ قَضَاءً وَالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَيُسِرُّ فِي غَيْرِهَا كَمُتَنَفِّلٍ بِالنَّهَارِ وَخُيِّرَ الْمُنْفَرِدُ فِيمَا يَجْهَرُ كَمُتَنَفِّلٍ بِاللَّيْلِ) شُرُوعٌ فِي بَيَانِ الْقِرَاءَةِ وَصِفَتِهَا وَقَدَّمَ صِفَتَهَا مِنْ الْجَهْرِ وَالْإِخْفَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَعُمُّ الْمَفْرُوضَ وَغَيْرَهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْكَافِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَجْهَرُ بِالْقُرْآنِ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا فِي الِابْتِدَاءِ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُؤْذُونَهُ وَيَسُبُّونَ مَنْ أَنْزَلَ وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: ١١٠] » أَيْ لَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِك كُلِّهَا وَلَا تُخَافِتْ بِهَا كُلِّهَا {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا} [الإسراء: ١١٠] بِأَنْ تَجْهَرَ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ وَتُخَافِتَ بِصَلَاةِ النَّهَارِ فَكَانَ يُخَافِتُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَعِدِّينَ لِلْإِيذَاءِ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ وَيَجْهَرُ فِي الْمَغْرِبِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَشْغُولِينَ بِالْأَكْلِ، وَفِي الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ لِكَوْنِهِمْ رُقُودًا، وَفِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَهُمَا بِالْمَدِينَةِ وَمَا كَانَ لِلْكُفَّارِ بِهَا قُوَّةٌ، وَهَذَا الْعُذْرُ وَإِنْ زَالَ بِغَلَبَةِ الْمُسْلِمِينَ فَالْحُكْمُ بَاقٍ؛ لِأَنَّ بَقَاءَهُ يَسْتَغْنِي عَنْ بَقَاءِ السَّبَبِ وَلِأَنَّهُ أَخْلَفَ عُذْرًا آخَرَ، وَهُوَ كَثْرَةُ اشْتِغَالِ النَّاسِ فِي هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ دُونَ غَيْرِهِمَا اهـ.
وَقَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى الْجَهْرِ فِيمَا ذَكَرَهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْجَهْرَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَاجِبٌ عَلَى الْإِمَامِ لِلْمُوَاظَبَةِ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَخْصِيصُهُ بِالْإِمَامِ مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِهِ هُنَا: وَخُيِّرَ الْمُنْفَرِدُ فِيمَا يَجْهَرُ، فَأَفَادَ أَنَّ الْإِمَامَ لَيْسَ بِمُخَيَّرٍ قَالُوا: وَلَا يُجْهِدُ الْإِمَامُ نَفْسَهُ بِالْجَهْرِ، وَفِي السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ: الْإِمَامُ إذَا جَهَرَ فَوْقَ حَاجَةِ النَّاسِ فَقَدْ أَسَاءَ، وَأَفَادَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي حَقِّ الْإِمَامِ بَيْنَ الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَحْكِي الْأَدَاءَ، وَأَلْحَقَ بِالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ التَّرَاوِيحَ وَالْوِتْرَ فِي رَمَضَانَ لِلتَّوَارُثِ الْمَنْقُولِ، وَالْمُرَادُ بِغَيْرِهِمَا الثَّالِثَةُ مِنْ الْمَغْرِبِ وَالْأُخْرَيَانِ مِنْ الْعِشَاءِ وَجَمِيعُ رَكَعَاتِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَقَدْ أَفَادَ أَنَّ الْمُتَنَفِّلَ بِالنَّهَارِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِخْفَاءُ مُطْلَقًا وَالْمُتَنَفِّلَ بِاللَّيْلِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْإِخْفَاءِ إنْ كَانَ مُنْفَرِدًا
أَمَّا إنْ كَانَ إمَامًا فَالْجَهْرُ وَاجِبٌ كَمَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَنَّ الْمُنْفَرِدَ لَيْسَ بِمُخَيَّرٍ فِي الصَّلَاةِ السِّرِّيَّةِ بَلْ يَجِبُ الْإِخْفَاءُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِخْفَاءُ فَالْمُنْفَرِدُ أَوْلَى وَذَكَرَ عِصَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ الْمُنْفَرِدَ مُخَيَّرٌ فِيمَا يُخَافِتُ فِيهِ أَيْضًا اسْتِدْلَالًا بِعَدَمِ وُجُوبِ سُجُودِ السَّهْوِ عَلَيْهِ وَتَعَقَّبَهُ الشَّارِحُ بِأَنَّ الْإِمَامَ إنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ؛ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ أَعْظَمُ؛ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ الْجَهْرَ وَالْإِسْمَاعَ بِخِلَافِ الْمُنْفَرِدِ وَتَعَقَّبَهُ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ بِأَنَّا لَا نُنْكِرُ أَنَّ وَاجِبًا قَدْ يَكُونُ آكَدُ مِنْ وَاجِبٍ لَكِنْ لَمَّا لَمْ يُنَطْ وُجُوبُ السَّهْوِ إلَّا بِتَرْكِ الْوَاجِبِ لَا بِآكَدِ الْوَاجِبِ وَلَا بِرُتْبَةٍ مَخْصُوصَةٍ مِنْهُ فَحَيْثُ كَانَتْ الْمُخَافَتَةُ وَاجِبَةً عَلَى الْمُنْفَرِدِ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ بِتَرْكِهَا السُّجُودُ، وَفِي الْعِنَايَةِ أَنَّ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمُنْفَرِدَ مُخَيَّرٌ فِيمَا يُخَافِتُ فِيهِ أَيْضًا، وَفِيهِ تَأَمُّلٌ وَالظَّاهِرُ مِنْ الْمَذْهَبِ الْوُجُوبُ، وَفِي قَوْلِهِ: فِيمَا يَجْهَرُ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُنْفَرِدَ مُخَيَّرٌ فِي الصَّلَاةِ
ــ
[منحة الخالق]
(قَوْلُهُ وَالْمُتَنَفِّلُ بِاللَّيْلِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْإِخْفَاءِ إنْ كَانَ مُنْفَرِدًا إلَخْ) قَالَ فِي النَّهْرِ بَعْدَ تَقْيِيدِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِذَلِكَ: وَلَمْ أَرَ مَنْ عَرَّجَ عَلَى هَذَا مِنْ شُرَّاحِ هَذَا الْكِتَابِ وَأَعْتَذِرُ عَنْ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّهُ اسْتَغْنَى عَنْ التَّقْيِيدِ لِكَوْنِ الْكَلَامِ فِيهِ اهـ.
وَهَذَا عَجِيبٌ إذْ هُوَ مَذْكُورٌ هُنَا تَبَعًا لِلشَّارِحِ هَذَا، وَفِي السِّرَاجِ بَعْدَ ذِكْرِهِ التَّخْيِيرَ اعْتِبَارًا بِالْفَرْضِ قَالَ: وَالْجَهْرُ أَفْضَلُ، وَعَزَاهُ إلَى الْمَبْسُوطِ (قَوْلُهُ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ بِتَرْكِهَا السُّجُودُ) قَالَ الشَّيْخُ إسْمَاعِيلُ أَقُولُ: وُجُوبُ سُجُودِ السَّهْوِ عَلَى الْمُنْفَرِدِ إذَا جَهَرَ فِيمَا يُخَافِتُ فِيهِ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ذُكِرَتْ فِي الذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهَا، وَفِي الْبُرْجَنْدِيِّ مَعْزِيًّا إلَى الظَّهِيرِيَّةِ: وَرَوَى أَبُو سُلَيْمَانَ أَنَّ الْمُنْفَرِدَ إذَا ظَنَّ أَنَّهُ إمَامٌ فَجَهَرَ كَمَا يَجْهَرُ الْإِمَامُ يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ: وَيُلَائِمُهُ مَا فِي الْمُحِيطِ إذَا جَهَرَ الْمُنْفَرِدُ فِي صَلَاةِ الْمُخَافَتَةِ كَانَ مُسِيئًا، وَفِي صَلَاةِ الْجَهْرِ يَتَخَيَّرُ كَذَا فِي عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ، وَاَلَّذِي جَزَمَ الْحَلْوَانِيُّ بِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْجَوَابِ أَنَّهُ لَا سَهْوَ عَلَى الْمُنْفَرِدِ، وَفِي الْخُلَاصَةِ لَا سَهْوَ عَلَى الْمُنْفَرِدِ إذَا خَافَتَ فِيمَا يَجْهَرُ بِهِ وَبِالْعَكْسِ وَسَيَأْتِي مُفَصَّلًا فِي بَابِهِ اهـ.
قُلْتُ: فِي التَّتَارْخَانِيَّة عَنْ الْمُحِيطِ وَالذَّخِيرَةِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(قَوْلُهُ وَالظَّاهِرُ مِنْ الْمَذْهَبِ الْوُجُوبُ) فِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ مَا فِي الْعِنَايَةِ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي شُرُوحِ الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهَا أَيْضًا كَالنِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ وَالْمِعْرَاجِ وَفِي الْهِدَايَةِ فِي بَابِ سُجُودِ السَّهْوِ: وَهَذَا فِي حَقِّ الْإِمَامِ دُونَ الْمُنْفَرِدِ لِأَنَّ الْجَهْرَ وَالْمُخَافَتَةَ مِنْ خَصَائِصِ الْجَمَاعَةِ، قَالَ الشُّرَّاحُ: إنَّ مَا ذَكَرَهُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَأَمَّا جَوَابُ رِوَايَةِ النَّوَادِرِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ سَجْدَةُ السَّهْوِ، وَفِي التَّتَارْخَانِيَّة عَنْ الْمُحِيطِ: وَأَمَّا الْمُنْفَرِدُ فَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute