أَمَّا إذَا كَانَ بَعِيدًا وَجَفَّ الْبَلَلُ ثُمَّ رَأَى بَلَلًا يُعِيدُ الْوُضُوءَ. وَالِاسْتِحْدَادُ حَلْقُ الْعَانَةِ سُمِّيَ اسْتِحْدَادًا لِاسْتِعْمَالِ الْحَدِيدَةِ، وَهِيَ الْمُوسَى، وَهُوَ سُنَّةٌ وَالْمُرَادُ بِالْعَانَةِ الشَّعْرُ فَوْقَ ذَكَرِ الرَّجُلِ وَحَوَالَيْهِ إلَى السُّرَّةِ وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ تَوْفِيرُهَا وَالْبَرَاجِمُ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالْجِيمِ جَمَعَ بُرْجُمَةٍ بِضَمِّ الْبَاءِ وَالْجِيمِ، وَهِيَ عُقَدُ الْأَصَابِعِ وَمَفَاصِلُهَا كُلُّهَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَيَلْتَحِقُ بِالْبَرَاجِمِ مَا يَجْتَمِعُ مِنْ الْوَسَخِ فِي مَعَاطِفِ الْأُذُنِ وَقَعْرِ الصِّمَاخِ فَيُزِيلُهُ بِالْمَسْحِ وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْأَوْسَاخِ، وَأَمَّا الْفِطْرَةُ فَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ الْمُحَقِّقِ الْكَمَالِ أَنَّهَا الدِّينُ، وَهُوَ قَوْلُ الْبَعْضِ وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهَا السُّنَّةُ، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ الْخِلْقَةُ وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْخِصَالِ مَا هُوَ وَاجِبٌ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَلَا يَمْتَنِعُ قَرْنُ الْوَاجِبِ بِغَيْرِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: ١٤١] ، فَإِنَّ الْإِيتَاءَ وَاجِبٌ وَالْأَكْلَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ كَذَا ذَكَرَ النَّوَوِيُّ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ، فَإِنَّ الْعَطْفَ فِي الْآيَةِ لَيْسَ نَظِيرَ مَا فِي الْحَدِيثِ، فَإِنَّ الْفِطْرَةَ إذَا فُسِّرَتْ بِالسُّنَّةِ يَقْتَضِي أَنَّ جَمِيعَ الْمَعْدُودِ مِنْ السُّنَّةِ، فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ جَاءَ عَشْرٌ مِنْ الرِّجَالِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ، فَالْأَوْلَى فِي الْفِطْرَةِ تَفْسِيرُهَا بِالدِّينِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ وَأَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِيهِمَا سُنَّةٌ فِي الْوُضُوءِ، وَكَذَلِكَ فِي الْغُسْلِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا» وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ وَالصَّارِفُ لَهُ عَنْ الْوُجُوبِ الِاتِّفَاقُ عَلَى عَدَمِهِ كَمَا نَقَلَهُ السِّرَاجُ الْهِنْدِيُّ
وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ، وَهُوَ «تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ» إلَخْ وَإِنْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ كَمَا ذَكَرَهُ الْهِنْدِيُّ فَقَدْ ضَعَّفَهُ النَّوَوِيُّ وَنَقَلَ ضَعْفَهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَالْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (قَوْلُهُ: لَا دَلْكَهُ) أَيْ لَا يُفْتَرَضُ دَلْكُ بَدَنِهِ فِي الْغُسْلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ إمْرَارُ الْيَدِ عَلَى الْأَعْضَاءِ الْمَغْسُولَةِ، فَلَوْ أَفَاضَ الْمَاءَ فَوَصَلَ إلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ، وَلَمْ يَمَسَّهُ بِيَدِهِ أَجْزَأَهُ غَسْلُهُ وَكَذَا وُضُوءُهُ قَالَ النَّوَوِيُّ وَبِهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ كَافَّةً إلَّا مَالِكًا وَالْمُزَنِيِّ فَإِنَّهُمَا شَرَطَاهُ فِي صِحَّةِ الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ وَاحْتَجَّا بِأَنَّ الْغُسْلَ هُوَ إمْرَارُ الْيَدِ وَلَا يُقَالُ لِوَاقِفٍ فِي الْمَطَرِ اغْتَسَلَ وَنُقِلَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ أَنَّهُ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا قَالَ وَكَأَنَّ وَجْهَهُ خُصُوصُ صِيغَةِ اطَّهَّرُوا، فَإِنَّ فَعَّلَ لِلتَّكْثِيرِ إمَّا فِي الْفِعْلِ نَحْوَ حَوَّلْت وَطَوَّفْت أَوْ فِي الْفَاعِلِ نَحْوُ مَوَّتَّ الْإِبِلَ أَوْ فِي الْمَفْعُولِ نَحْو {وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ} [يوسف: ٢٣] وَالثَّانِي يَسْتَدْعِي كَثْرَةَ الْفَاعِلِ فَلَا يُقَالُ فِي شَاةٍ وَاحِدَةٍ مَوَّتَّ وَالثَّالِثُ كَثْرَةُ الْمَفْعُولِ فَلَا يُقَالُ فِي بَابٍ وَاحِدٍ غَلَّقْته.
وَإِنْ غَلَّقَهُ مِرَارًا كَمَا قِيلَ فَتَعَيَّنَ كَثْرَةُ الْفِعْلِ، وَهُوَ بِالدَّلْكِ اهـ.
وَلَمْ يُجِبْ عَنْهُ وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الشَّارِحُونَ هُنَا أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي النَّصِّ هُوَ التَّطْهِيرُ، وَلَا يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى الدَّلْكِ فَمَنْ شَرَطَهُ فَقَدْ زَادَ فِي النَّصِّ، وَهُوَ نَسْخٌ وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّهُ يُحْتَجُّ «بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِذَا وَجَدْت الْمَاءَ فَأَمِسَّهُ جِلْدَك» وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِزِيَادَةٍ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَقَوْلُهُمْ لَا تُسَمَّى الْإِفَاضَةُ غُسْلًا مَمْنُوعٌ اهـ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ إنَّ فَعَّلَ لِلتَّكْثِيرِ إلَى قَوْلِهِ فَتُعَيَّنُ كَثْرَةُ الْفِعْلِ قَدْ يُقَالُ إنَّ صِيغَةَ اطَّهَّرُوا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ قَبِيلِ التَّكْثِيرِ
ــ
[منحة الخالق]
(قَوْلُهُ: وَالِاسْتِحْدَادُ إلَخْ) لَيْسَ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْحَدِيثِ ذِكْرُ الِاسْتِحْدَادِ بَلْ الَّذِي مَرَّ هُوَ الْحَلْقُ (قَوْلُهُ: بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالْجِيمِ) عُطِفَ عَلَى فَتْحٍ وَالْأَوْلَى مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَبِالْجِيمِ بِإِعَادَةِ الْبَاءِ الْجَارَّةِ (قَوْلُهُ: وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ إلَخْ) يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ مُرَادَهُ بِالسُّنَّةِ الطَّرِيقَةُ، وَهِيَ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(قَوْلُهُ: وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ إنَّ فَعَّلَ إلَخْ) أَقُولُ: هَذَا الْكَلَامُ فِي هَذَا الْمَقَامِ خَارِجٌ عَنْ الِانْتِظَامِ مِنْ خَمْسَةِ وُجُوهٍ وَلَوْلَا ضَرُورَةُ بَيَانِهِ لَكَانَ الْأَوْلَى لِمِثْلِي حِفْظُ لِسَانِهِ فَأَقُولُ.
أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ ادِّعَاءَ الْمُحَقِّقِ أَنَّ اطَّهَّرَ مِنْ بَابِ فَعَّلَ لَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ التَّفَعُّلِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ الشَّارِحِ عَنْ غَايَةِ الْبَيَانِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ بَعْدُ وَكَأَنَّ الشَّارِحَ لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ اعْتِمَادًا عَلَى مَا قَدَّمَهُ وَلَعَلَّ الْمُحَقِّقَ الْكَمَالَ تَفَطَّنَ لِهَذَا فَأَضْرَبَ فِيمَا وُجِدَ بِخَطِّهِ عَنْهُ وَاقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ صِيغَةَ التَّفَعُّلِ لِلْمُبَالَغَةِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي النَّهْرِ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّ قَوْلَ الشَّارِحِ إنَّ صِيغَةَ اطَّهَّرُوا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ قَبِيلِ التَّكْثِيرِ فِي الْمَفْعُولِ فَمَمْنُوعٌ أَمَّا أَوَّلًا؛ فَلِأَنَّ اطَّهَّرُوا أَمْرٌ مِنْ تَطَهَّرَ الْقَوْمُ كَمَا عَلِمْت، وَهُوَ لَازِمٌ، وَأَمَّا ثَانِيًا؛ فَلِأَنَّا، وَإِنْ قُلْنَا إنَّ مَا ذَكَرَهُ هُنَا إنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّنَزُّلِ مَعَ الْكَمَالِ مِنْ أَنَّهُ أَمْرٌ مِنْ طَهَّرَ فَلَا مَفْعُولَ فِيهِ أَيْضًا فَلَا يَكُونُ مِنْ التَّكْثِيرِ فِي الْمَفْعُولِ وَأَمَّا ثَالِثًا؛ فَلِأَنَّا، وَإِنْ تَنَزَّلْنَا وَقُلْنَا كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ أَنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ فِي حُكْمِ قَضَايَا مُتَعَدِّدَةٍ وَادَّعَيْنَا بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى اطَّهَّرُوا لِيُطَهِّرْ كُلُّ وَاحِدِ مِنْكُمْ بَدَنَهُ فَيَكُونُ فِيهِ مَفْعُولٌ فِي الْمَعْنَى فَنَقُولُ لَا يَكُونُ مِنْ التَّكْثِيرِ فِي الْمَفْعُولِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ بَدَنَ كُلِّ أَحَدٍ وَاحِدٌ لَا تَعَدُّدَ فِيهِ فَيَكُونُ مِنْ التَّكْثِيرِ فِي الْفِعْلِ كَمَا قَالَ الْكَمَالُ
وَأَمَّا الثَّالِثُ؛ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ وَقَوْلُهُ إنَّ التَّكْثِيرَ فِي الْمَفْعُولِ يَسْتَدْعِي كَثْرَةَ الْمَفْعُولِ مُسَلَّمٌ فِيمَا إذَا كَانَ الْفِعْلُ لَا تَكْثِيرَ فِيهِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا قَالَ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ زَكَرِيَّا فِي شَرْحِ الشَّافِيَةِ إنَّ التَّكْثِيرَ فِي الْفَاعِلِ أَوْ الْمَفْعُولِ يَسْتَلْزِمُ التَّكْثِيرَ فِي الْفِعْلِ وَلَا عَكْسَ اهـ.
وَقَوْلُهُ كَمَوْتِ الْإِبِلِ غَيْرُ صَحِيحٍ أَيْضًا مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ فِيهِ تَكْثِيرَ الْفِعْلِ لِمَا عَلِمْت الثَّانِي أَنَّهُ مِنْ التَّكْثِيرِ فِي الْفَاعِلِ لَا الْمَفْعُولِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ، وَأَمَّا الرَّابِعُ؛ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ أَمَّا إذَا كَانَ فِي الْفِعْلِ تَكْثِيرٌ إلَخْ صَحِيحٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ، وَإِنْ كَانَ