وَالْمُكَاتَبُونَ لَا يَحْصُلُ فِي أَيْدِيهِمْ شَيْءٌ وَالْغَارِمُونَ بِصَرْفِ نَصِيبِهِمْ لِأَرْبَابِ الدُّيُونِ، وَكَذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - تَعَالَى، وَابْنُ السَّبِيلِ مُنْدَرِجٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأُفْرِدَ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا عَلَى خُصُوصِيَّةٍ، وَهُوَ مُجَرَّدٌ عَنْ الْحَرْفَيْنِ جَمِيعًا أَيْ اللَّامِ، وَفِي عَطْفِهِ عَلَى اللَّامِ مُمْكِنٌ، وَفِي أَقْرَبُ اهـ.
فَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْأَرْبَعَةَ الْأَخِيرَةَ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ صَرْفُ الْمَالِ فِي غَيْرِ الْجِهَةِ الَّتِي أَخَذُوا لِأَجْلِهَا، وَفِي الْبَدَائِعِ: وَإِنَّمَا جَازَ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ إلَيْهِ تَمْلِيكٌ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْمِلْكَ يَقَعُ لِلْمُكَاتَبِ فَبَقِيَّةُ الْأَرْبَعَةِ بِالطَّرِيقَةِ الْأَوْلَى لَكِنْ بَقِيَ هَلْ لَهُمْ عَلَى هَذَا الصَّرْفُ إلَى غَيْرِ الْجِهَةِ، وَفِي الْمُحِيطِ وَقَدْ قَالُوا: إنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمُكَاتَبٍ هَاشِمِيٍّ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَقَعُ لِلْمَوْلَى مِنْ وَجْهٍ، وَالشُّبْهَةُ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ فِي حَقِّهِمْ اهـ.
وَفِي شَرْحِ الْمَجْمَعِ، وَإِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ يَحِلُّ لِمَوْلَاهُ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا، وَعَلَى هَذَا الْفَقِيرُ إذَا اسْتَغْنَى، وَابْنُ السَّبِيلِ إذَا وَصَلَ إلَى مَالِهِ
(قَوْلُهُ وَالْمَدْيُونُ) أَطْلَقَهُ كَالْقُدُورِيِّ وَقَيَّدَهُ فِي الْكَافِي بِأَنْ لَا يَمْلِكَ نِصَابًا فَاضِلًا عَنْ دَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ الْمُرَادُ بِالْغَارِمِ فِي الْآيَةِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَلَا يَجِدُ قَضَاءً كَمَا ذَكَرَهُ الْقُتَبِيُّ، وَإِنَّمَا لَمْ يُقَيِّدْهُ الْمُصَنِّفُ؛ لِأَنَّ الْفَقْرَ شَرْطٌ فِي الْأَصْنَافِ كُلِّهَا إلَّا الْعَامِلَ، وَابْنُ السَّبِيلِ إذَا كَانَ لَهُ فِي وَطَنِهِ مَالٌ بِمَنْزِلَةِ الْفَقِيرِ، وَفِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ: وَالدَّفْعُ إلَى مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَوْلَى مِنْ الدَّفْعِ إلَى الْفَقِيرِ (قَوْلُهُ: وَمُنْقَطِعُ الْغُزَاةِ) هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: ٦٠] ، وَهُوَ اخْتِيَارٌ مِنْهُ لِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ مُنْقَطِعُ الْحَاجِّ، وَقِيلَ: طَلَبُهُ الْعِلْمَ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ وَفَسَّرَهُ فِي الْبَدَائِعِ بِجَمِيعِ الْقُرَبِ فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَنْ سَعَى فِي طَاعَةِ اللَّهِ - تَعَالَى، وَسَبِيلِ الْخَيْرَاتِ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا اهـ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَيْدَ الْفَقِيرِ لَا بُدَّ مِنْهُ عَلَى الْوُجُوهِ كُلِّهَا فَحِينَئِذٍ لَا تَظْهَرُ ثَمَرَتُهُ فِي الزَّكَاةِ، وَإِنَّمَا تَظْهَرُ فِي الْوَصَايَا وَالْأَوْقَافِ كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ
(قَوْلُهُ وَابْنُ السَّبِيلِ) هُوَ الْمُنْقَطِعُ عَنْ مَالِهِ لِبُعْدِهِ عَنْهُ وَالسَّبِيلُ الطَّرِيقُ فَكُلُّ مَنْ يَكُونُ مُسَافِرًا يُسَمَّى ابْنَ السَّبِيلِ، وَهُوَ غَنِيٌّ بِمَكَانِهِ حَتَّى تَجِبَ الزَّكَاةُ فِي مَالِهِ، وَيُؤْمَرَ بِالْأَدَاءِ إذَا وَصَلَتْ إلَيْهِ يَدُهُ، وَهُوَ فَقِيرٌ يَدًا حَتَّى تُصْرَفَ إلَيْهِ الصَّدَقَةُ فِي الْحَالِ لِحَاجَتِهِ كَذَا فِي الْكَافِي فَإِنْ قُلْت: مُنْقَطِعُ الْغُزَاةِ أَوْ الْحَجِّ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي وَطَنِهِ مَالٌ فَهُوَ فَقِيرٌ، وَإِلَّا فَهُوَ ابْنُ السَّبِيلِ فَكَيْفَ تَكُونُ الْأَقْسَامُ سَبْعَةً، قُلْت: هُوَ فَقِيرٌ إلَّا أَنَّهُ زَادَ عَلَيْهِ بِالِانْقِطَاعِ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَكَانَ مُغَايِرًا لِلْفَقِيرِ الْمُطْلَقِ الْخَالِي عَنْ هَذَا الْقَيْدِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَفِي الظَّهِيرِيَّةِ الِاسْتِقْرَاضُ لِابْنِ السَّبِيلِ خَيْرٌ مِنْ قَبُولِ الصَّدَقَةِ، وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرَ مِنْ حَاجَتِهِ وَأُلْحِقَ بِهِ كُلُّ مَنْ هُوَ غَائِبٌ عَنْ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي بَلَدِهِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا بِهِ، وَفِي الْمُحِيطِ، وَإِنْ كَانَ تَاجِرًا لَهُ دَيْنٌ عَلَى النَّاسِ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ، وَلَا يَجِدُ شَيْئًا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ فَقِيرٌ يَدًا كَابْنِ السَّبِيل اهـ.
وَهُوَ أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ غَارِمًا كَمَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي بَحْثِ الْفَقِيرِ تَفْصِيلًا لَهُ فَرَاجِعْهُ
(قَوْلُهُ فَيَدْفَعُ إلَى كُلِّهِمْ أَوْ إلَى صِنْفٍ) ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ بَيَانُ الْأَصْنَافِ الَّتِي يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ لَا تَعْيِينُ الدَّفْعِ لَهُمْ وَيَدُلُّ لَهُ مِنْ الْكِتَابِ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: ٢٧١] ، وَمِنْ السُّنَّةِ أَنَّهُ «- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَتَاهُ مَالٌ مِنْ الصَّدَقَةِ فَجَعَلَهُ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ وَهُمْ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ ثُمَّ أَتَاهُ مَالٌ آخَرُ فَجَعَلَهُ فِي الْغَارِمِينَ» وَلَمْ يُصَرِّحْ فِي الْكِتَابِ بِجَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ، وَلَا شَكَّ فِيهِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ الْمُعَرَّفَ بِاللَّامِ مَجَازٌ عَنْ الْجِنْسِ وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَلَا يَشْتَرِي الْعَبِيدَ يَحْنَثُ بِالْوَاحِدِ فَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ أَنَّ جِنْسَ الزَّكَاةِ لِجِنْسِ الْفَقِيرِ فَيَجُوزُ الصَّرْفُ إلَى وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الِاسْتِغْرَاقَ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ؛ إذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ صَدَقَةٍ لِكُلِّ فَقِيرٍ، وَلَا يَرِدُ
ــ
[منحة الخالق]
(قَوْلُهُ: لَكِنْ بَقِيَ إلَخْ) قَالَ الرَّمْلِيُّ: الَّذِي يَقْتَضِيهِ نَظَرُ الْفَقِيهِ الْجَوَازُ تَأَمَّلْ اهـ.
قُلْت: بَلْ جَزَمَ بِهِ الْمَقْدِسِيَّ فِي شَرْحِهِ فَقَالَ: وَإِذَا مَلَكَ الْمَدْفُوعُ لَهُ جَازَ لَهُ صَرْفُهُ فِيمَا شَاءَ (قَوْلُهُ: وَقَدْ قَالُوا: إنَّهُ) أَيْ دَفْعَ الزَّكَاةِ (قَوْلُهُ: فَحِينَئِذٍ لَا تَظْهَرُ ثَمَرَتُهُ فِي الزَّكَاةِ) قَالَ فِي النَّهْرِ: وَالْخِلَافُ لَفْظِيٌّ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ الْأَصْنَافَ كُلَّهُمْ سِوَى الْعَامِلِ يُعْطَوْنَ بِشَرْطِ الْفَقْرِ فَمُنْقَطِعُ الْحَاجِّ يُعْطَى اتِّفَاقًا اهـ.
هَذَا وَفِي مِنَحِ الْغَفَّارِ بَعْدَ ذِكْرِهِ مَا مَرَّ عَنْ الْبَدَائِعِ مِنْ تَعْلِيلِ حِلِّ الدَّفْعِ لِلْعَامِلِ الْغَنِيِّ بِأَنَّهُ فَرَّغَ نَفْسَهُ لِهَذَا الْعَمَلِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْكِفَايَةِ إلَخْ قَالَ: وَبِهَذَا التَّعْلِيلِ يَقْوَى مَا نُسِبَ إلَى بَعْضِ الْفَتَاوَى أَنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الزَّكَاةَ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا إذَا فَرَّغَ نَفْسَهُ لِإِفَادَةِ الْعِلْمِ وَاسْتِفَادَتِهِ لِكَوْنِهِ عَاجِزًا عَنْ الْكَسْبِ، وَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَهَكَذَا رَأَيْته بِخَطٍّ مَوْثُوقٍ وَعَزَاهُ إلَى الْوَاقِعَاتِ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ اهـ.
قُلْت: وَقَدْ رَأَيْته أَيْضًا فِي جَامِعِ الْفَتَاوَى مَعْزِيًّا إلَى الْمَبْسُوطِ وَنَصُّهُ: وَفِي الْمَبْسُوطِ لَا يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى مَنْ يَمْلِكُ نِصَابًا إلَّا إلَى طَالِبِ الْعِلْمِ وَالْغَازِي وَالْمُنْقَطِعِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَيَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ نَفَقَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً اهـ.
وَهَذَا مُنَافٍ لِدَعْوَى النَّهْرِ تَبَعًا لِفَتْحِ الْقَدِيرِ الِاتِّفَاقَ تَأَمَّلْ (قَوْلُهُ: وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرَ مِنْ حَاجَتِهِ)