مِنْ الْغَيْرِ لَا يُوجِبُ وُجُودَ نِيَّةِ مَا يَصِحُّ، وَهُوَ يُصَرِّحُ بِقَوْلِهِ لَمْ أُرِدْهُ بَلْ لَوْ ثَبَتَ لَكَانَ جَبْرًا، وَلَا جَبْرَ فِي الْعِبَادَاتِ وَقَوْلُهُمْ: الْأَخَصُّ يُصَابُ بِالْأَعَمِّ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا أَرَادَ الْأَخَصَّ بِالْأَعَمِّ، وَلَوْ أَرَادَهُ لَارْتَفَعَ الْخِلَافُ، وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا مَا رُوِيَ عَنْ زُفَرَ أَنَّ التَّعْيِينَ شَرْعًا يُوجِبُ الْإِصَابَةَ بِلَا نِيَّةٍ اهـ.
وَقَدْ يُقَالُ بِأَنَّهُ نَوَى أَصْلَ الصَّوْمِ وَوَصْفَهُ، وَالْوَقْتُ لَا يَقْبَلُ الْوَصْفَ فَلَغَتْ نِيَّةُ الْوَصْفِ، وَبَقِيَتْ نِيَّةُ الْأَصْلِ؛ إذْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ بُطْلَانِ الْوَصْفِ بُطْلَانُ الْأَصْلِ، وَالْإِعْرَاضُ إنْ ثَبَتَ فَإِنَّمَا هُوَ فِي ضِمْنِ نِيَّةِ النَّفْلِ أَوْ الْقَضَاءِ وَقَدْ لَغَتْ بِالِاتِّفَاقِ فَيَلْغُو مَا فِي ضِمْنِهَا، وَلَا يَلْزَمُ الْجَبْرُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي أَصْلِ الصَّوْمِ يَتَحَقَّقُ لِبَقَاءِ الِاخْتِيَارِ لِلْعَبْدِ فِيهِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ فِي الصِّفَةِ؛ إذْ لَا اخْتِيَارَ لَهُ فِيهَا فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ إبْدَالُ هَذَا الْوَصْفِ بِوَصْفٍ آخَرَ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ نِيَّةِ الصِّفَةِ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْجَبْرُ إلَّا لَوْ قُلْنَا بِوُقُوعِ الصَّوْمِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ أَصْلًا، وَمَا أَلْزَمَنَا بِهِ الشَّافِعِيُّ هُنَا مِنْ لُزُومِ الْجَبْرِ لَزِمَهُ فِي الْحَجِّ فَإِنَّهُ صَحَّحَهُ فَرْضًا بِنِيَّةِ النَّفْلِ فَمَا هُوَ جَوَابُهُ فَهُوَ جَوَابُنَا، وَأَمَّا فِي النَّذْرِ الْمُعَيَّنِ فَلِأَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ - تَعَالَى، وَإِنَّمَا قَالَ: وَبِنِيَّةِ النَّفْلِ، وَلَمْ يَقُلْ: وَبِنِيَّةٍ مُبَايِنَةٍ لِمَا أَنَّ النَّفَلَ لَا يَصِحُّ بِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ بَلْ يَقَعُ عَمَّا نَوَى وَلِمَا أَنَّ الْمَنْذُورَ الْمُعَيَّنَ لَا يَصِحُّ بِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ بَلْ يَقَعُ عَمَّا نَوَى بِخِلَافِ رَمَضَانَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ التَّعْيِينَ إنَّمَا جُعِلَ بِوِلَايَةِ النَّاذِرِ، وَلَهُ إبْطَالُ صَلَاحِيَّةِ مَالِهِ، وَهُوَ النَّفَلُ لَا مَا عَلَيْهِ، وَهُوَ الْقَضَاءُ وَنَحْوُهُ، وَرَمَضَانُ مُتَعَيِّنٌ بِتَعْيِينِ الشَّارِعِ، وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ إبْطَالِ صَلَاحِيَّتِهِ لِغَيْرِهِ مِنْ الصِّيَامِ لَكِنْ بَقِيَ عَلَيْهِ إفَادَةُ صِحَّةِ رَمَضَانَ بِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ نِيَّةِ النَّفْلِ إشَارَةً إلَيْهِ بِجَامِعِ إلْغَاءِ الْجِهَةِ لِتَعْيِينِهِ، وَإِذَا وَقَعَ عَمَّا نَوَى فَهَلْ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْمَنْذُورِ الْمُعَيَّنِ لَا ذِكْرَ لَهَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَالْأَصَحُّ وُجُوبُ الْقَضَاءِ كَذَا فِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ، وَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ الْمُسَافِرُ فَإِنَّهُ لَوْ نَوَى وَاجِبًا آخَرَ فِي رَمَضَانَ يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَقَعُ عَمَّا نَوَى لِإِثْبَاتِ الشَّارِعِ التَّرَخُّصَ لَهُ، وَهُوَ فِي الْمَيْلِ إلَى الْأَخَفِّ، وَهُوَ فِي صَوْمِ الْوَاجِبِ الْمُغَايِرِ؛ لِأَنَّهُ فِي ذِمَّتِهِ، وَفَرْضُ الْوَقْتِ لَا يَكُونُ فِي ذِمَّتِهِ إلَّا إذَا أَدْرَكَ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَفِي النَّفْلِ عَنْهُ رِوَايَتَانِ أَصَحُّهُمَا عَدَمُ صِحَّةِ مَا نَوَى، وَوُقُوعُهُ عَنْ فَرْضِ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ النَّفْلِ الثَّوَابُ، وَهُوَ فَرْضُ الْوَقْتِ أَكْثَرُ كَمَا لَوْ أَطْلَقَ النِّيَّةَ كَذَا فِي التَّقْرِيرِ فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ الْمُسَافِرَ يَصِحُّ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَبِنِيَّةِ النَّفْلِ عَلَى الْأَصَحِّ فِيهِمَا مَعَ وُجُودِ الرِّوَايَتَيْنِ فِيهِمَا؛ فَلِهَذَا لَمْ يَسْتَثْنِهِ فِي الْمُخْتَصَرِ وَأَمَّا الْمَرِيضُ إذَا نَوَى وَاجِبًا آخَرَ أَوْ نَفْلًا فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فَقِيلَ يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَامَ اُلْتُحِقَ بِالصَّحِيحِ وَاخْتَارَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَجَمْعٌ وَصَحَّحَهُ صَاحِبُ الْمَجْمَعِ
وَقِيلَ يَقَعُ عَمَّا نَوَى كَالْمُسَافِرِ وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ وَأَكْثَرُ الْمَشَايِخِ، وَقِيلَ بِأَنَّهُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ عَنْ رَمَضَانَ فِي النَّفْلِ عَلَى الصَّحِيحِ كَالْمُسَافِرِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، وَقِيلَ بِالتَّفْصِيلِ بَيْنَ أَنْ يَضُرَّهُ الصَّوْمُ فَتَتَعَلَّقَ الرُّخْصَةُ بِخَوْفِ الزِّيَادَةِ فَيَصِيرَ كَالْمُسَافِرِ يَقَعُ عَمَّا نَوَى وَبَيْنَ أَنْ لَا يَضُرَّهُ الصَّوْمُ كَفَسَادِ الْهَضْمِ فَتَتَعَلَّقَ الرُّخْصَةُ بِحَقِيقَتِهِ فَيَقَعَ عَنْ فَرْضِ الْوَقْتِ وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ الْكَشْفِ وَتَبِعَهُ الْمُحَقِّقُ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَالتَّحْرِيرِ
وَتَعَقَّبَهُ الْأَكْمَلُ فِي التَّقْرِيرِ بِأَنَّ الْمَعْلُومَ أَنَّ الْمَرِيضَ
ــ
[منحة الخالق]
(قَوْلُهُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ نِيَّةِ النَّفْلِ إشَارَةً إلَيْهِ إلَخْ) قَالَ فِي النَّهْرِ: فِيهِ تَدَافُعٌ؛ إذْ بِتَقْدِيرِ هَذِهِ الْإِشَارَةِ يَكُونُ النَّفَلُ صِفَةً كَاشِفَةً، وَالصِّحَّةُ بِالْمُغَايِرِ خَاصَّةً بِرَمَضَانَ، وَلَا دَلَالَةَ فِي الْكَلَامِ عَلَى اخْتِصَاصِ إصَابَةِ رَمَضَانَ بِهِ، وَقَوْلُهُ الْآتِي فَعُلِمَ بِهَذَا إلَخْ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَيْدًا فَتَدَبَّرْهُ، وَالصَّوَابُ أَنْ يُجْعَلَ قَيْدًا، وَلَا دَلَالَةَ فِي الْكَلَامِ عَلَى إصَابَةِ رَمَضَانَ بِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ الشَّارِحُ بِقَوْلِهِ: وَكَذَا يَجُوزُ أَيْضًا صَوْمُ رَمَضَانَ بِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ، وَعِبَارَتُهُ فِي الْوَافِي بِالْمَقْصُودِ مِمَّا هُنَا أَوْفَى حَيْثُ قَالَ: وَإِنْ أَطْلَقَ أَوْ نَوَى وَاجِبًا آخَرَ فِي غَيْرِ نَذْرٍ وَنَفْلٍ وَسَفَرٍ، وَيُعْلَمُ مِنْهُ الصِّحَّةُ فِيمَا إذَا نَوَى نَفْلًا بِالْأُولَى (قَوْلُهُ: وَإِذَا وَقَعَ عَمَّا نَوَى إلَى قَوْلِهِ كَذَا فِي الظَّهِيرِيَّةِ) يُوجَدُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَالْأَنْسَبُ إسْقَاطُهُ مِنْ هَذَا الْمَحَلِّ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ لِئَلَّا يَرِدَ عَلَيْهِ مِنْ مُتَعَلَّقَاتِ قَوْلِهِ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إلَخْ (قَوْلُهُ: وَتَعَقَّبَهُ الْأَكْمَلُ إلَخْ) أَقُولُ: يَظْهَرُ لِي أَنَّ مَا فَهِمَهُ الْأَكْمَلُ لَيْسَ مُرَادًا لِلْقَائِلِينَ بِالتَّفْصِيلِ بَلْ مُرَادُهُمْ أَنَّ الْمَرِيضَ تَارَةً يَضُرُّهُ الصَّوْمُ بِأَنْ يَصِيرَ الصَّوْمُ سَبَبًا لِزِيَادَةِ مَرَضِهِ فَهَذَا تَتَعَلَّقُ الرُّخْصَةُ فِي حَقِّهِ بِخَوْفِ الزِّيَادَةِ فَمَا دَامَ يَخَافُهَا يُرَخَّصُ لَهُ الْفِطْرُ، وَلَا يُمْكِنُ إلْحَاقُهُ بِالصَّحِيحِ بَلْ هُوَ كَالْمُسَافِرِ لِوُجُودِ الرُّخْصَةِ، وَتَارَةً لَا يَضُرُّهُ الصَّوْمُ، وَإِنَّمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الضَّعْفِ مَا لَا يَقْدِرُ مَعَهُ عَلَى أَدَاءِ الصَّوْمِ أَصْلًا فَهَذَا تَتَعَلَّقُ الرُّخْصَةُ فِي حَقِّهِ بِحَقِيقَةِ الْمَرَضِ أَيْ مَا دَامَ هَذَا الْمَرَضُ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ مَعَهُ الصَّوْمُ أَصْلًا يُرَخَّصُ لَهُ الْفِطْرُ فَإِذَا قَدَرَ عَلَى الصَّوْمِ فَقَدْ زَالَ الْمُرَخِّصُ فَصَارَ كَالصَّحِيحِ لَا كَالْمُسَافِرِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَرَضَ قِسْمَانِ قِسْمٌ يُمْكِنُ مَعَهُ الصَّوْمُ لَكِنَّهُ يَزْدَادُ بِهِ الْمَرَضُ فَيُبَاحُ فِيهِ الْفِطْرُ فَهَذَا كَالْمُسَافِرِ بِجَامِعِ الْإِبَاحَةِ مَعَ الْإِمْكَانِ وَقِسْمٌ لَا يُمْكِنُ مَعَهُ الصَّوْمُ أَصْلًا، وَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ لَا يَضُرُّهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَفَسَادِ الْهَضْمِ، فَإِنَّ الصَّوْمَ يَنْفَعُهُ لَكِنَّهُ لَوْ وَصَلَ فِي الضَّعْفِ إلَى حَالَةٍ لَا يُمْكِنُهُ الصَّوْمُ يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ مَا دَامَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ حَتَّى لَوْ قَدَرَ بَعْدَهَا فَقَدْ زَالَ الْمُبِيحُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute