الَّذِي لَا يَضُرُّهُ الصَّوْمُ غَيْرُ مُرَخَّصٍ لَهُ الْفِطْرُ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ كَمَا شَهِدَتْ كُتُبُهُمْ بِذَلِكَ فَمَنْ لَا يَضُرُّهُ الصَّوْمُ صَحِيحٌ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ فِي عِبَارَةِ الْقَوْمِ أُصُولًا وَفُرُوعًا أَنَّ رَمَضَانَ يَصِحُّ مَعَ الْخَطَأِ فِي الْوَصْفِ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمَشَايِخِ إلَى أَنَّ مَسْأَلَةَ نِيَّةِ الصَّوْمِ النَّفْلِ فِي رَمَضَانَ مِنْ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ إنَّمَا هِيَ مُصَوَّرَةٌ فِي يَوْمِ الشَّكِّ بِأَنْ شَرَعَ بِهَذِهِ النِّيَّةِ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى يَكُونَ هَذَا الظَّنُّ مَعْفُوًّا فَأَمَّا لَوْ وُجِدَتْ فِي غَيْرِهِ يُخْشَى عَلَيْهِ الْكُفْرُ؛ لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِمْسَاكِ الْمُعَيَّنِ يَتَأَدَّى بِغَيْرِهِ وَبِمِثْلِ هَذَا الظَّنِّ يُخْشَى عَلَيْهِ الْكُفْرُ كَذَا فِي التَّقْرِيرِ، وَفِي النِّهَايَةِ مَا يَرُدُّهُ فَإِنَّهُ قَالَ فِي دَلِيلِ الشَّافِعِيِّ: إنَّهُ لَوْ اعْتَقَدَ الْمَشْرُوعَ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَنَّهُ نَفْلٌ يَكْفُرُ، وَقَالَ فِي رَدِّهِ: إنَّهُ لَمَّا لَغَا نِيَّةَ النَّفْلِ لَمْ تَتَحَقَّقْ نِيَّةُ الْإِعْرَاضِ، وَبِهِ يَبْطُلُ قَوْلُهُ: إنَّهُ لَوْ اعْتَقَدَ فِيهِ أَنَّهُ نَفْلٌ يَكْفُرُ اهـ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ مُلَازِمٌ بَيْنَ نِيَّةِ النَّفْلِ وَاعْتِقَادِ عَدَمِ الْفَرْضِيَّةِ أَوْ ظَنِّهِ فَقَدْ يَكُونُ مُعْتَقِدًا لِلْفَرْضِيَّةِ، وَمَعَ ذَلِكَ نَوَى النَّفَلَ فَلَا يَكُونُ بِنِيَّةِ النَّفْلِ كَافِرًا إلَّا إذَا انْضَمَّ إلَيْهَا اعْتِقَادُ النَّفْلِيَّةِ، وَكَذَا لَا يُخْشَى عَلَيْهِ الْكُفْرُ إلَّا إذَا انْضَمَّ إلَيْهَا الظَّنُّ الْمَذْكُورُ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ جَرَى عَلَى أَصْلِهِ فِي الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ يَنْفَكُّ عَنْ الْوَصْفِ؛ فَلِهَذَا قَالَ: إذَا بَطَلَتْ صِفَةُ الْفَرْضِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ لَا يَبْطُلُ أَصْلُهَا وَإِذَا بَطَلَتْ الصِّفَةُ فِي الصَّوْمِ بَقِيَ أَصْلُهُ، وَإِذَا قَالَ لَهَا: أَنْت طَالِقٌ كَيْفَ شِئْت وَقَعَ أَصْلُ الطَّلَاقِ وَكَانَ الْوَصْفُ مُفَوَّضًا إلَيْهَا وَهُمَا قَالَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّ مَا لَا يَقْبَلُ الْإِشَارَةَ مِنْ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ فَحَالُهُ وَوَصْفُهُ بِمَنْزِلَةِ أَصْلِهِ فَيَتَعَلَّقُ الْأَصْلُ بِتَعَلُّقِهِ فَخَالَفَا هَذَا الْأَصْلَ فِي الصَّوْمِ وَخَالَفَهُ أَبُو يُوسُفَ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِيهَا وَجَرَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ قَالَ بِبُطْلَانِ الْأَصْلِ إذَا بَطَلَ الْوَصْفُ فِيهَا وَقَدْ فَرَّقَ بَعْضُهُمْ لِمُحَمَّدٍ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَرَدَّهُ الْأَكْمَلُ فِي تَقْرِيرِهِ وَقَالَ فِي بَحْثٍ كَيْفَ أَنَّ أَصْلَهُمَا الْمَذْكُورَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ صِحَّتَهُ تَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الْفَاسِدِ عَلَى مَذْهَبِنَا وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ عِنْدَنَا تَنْقَسِمُ إلَى جَائِزٍ وَفَاسِدٍ وَبَاطِلٍ، بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ أَنَّ الرِّبَا مَثَلًا وَسَائِرَ الْعُقُودَاتِ الْفَاسِدَةِ مَشْرُوعَةٌ بِأَصْلِهَا غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ بِوَصْفِهَا بِالِاتِّفَاقِ، وَهِيَ مِمَّا لَا يَقْبَلُ الْإِشَارَةَ فَلَوْ كَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ صَحِيحًا لَكَانَ الْأَصْلُ فِيهِ مِثْلَ الْوَصْفِ وَالْوَصْفُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَمَا كَانَ غَيْرَ مَشْرُوعٍ بِحَسَبِ الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ فَهُوَ بَاطِلٌ اتِّفَاقًا لَا فَاسِدٌ أَوْ كَانَ الْوَصْفُ مِثْلَ الْأَصْلِ وَالْأَصْلُ مَشْرُوعٌ فَكَانَ الرِّبَا جَائِزًا لَا فَاسِدًا، وَهُوَ بَاطِلٌ إجْمَاعًا اهـ.
(قَوْلُهُ وَمَا بَقِيَ لَمْ يَجُزْ إلَّا بِنِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مُبَيَّتَةٍ) أَيْ مَا بَقِيَ مِنْ الصِّيَامِ، وَهُوَ قَضَاءُ رَمَضَانَ وَالْكَفَّارَاتُ وَجَزَاءُ الصَّيْدِ وَالْحَلْقُ وَالْمُتْعَةُ وَالنَّذْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَصِحُّ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ، وَلَا بِنِيَّةٍ مُبَايِنَةٍ، وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّعْيِينِ لِعَدَمِ تَعَيُّنِ الْوَقْتِ لَهُ، وَلَا بُدَّ فِيهِ أَيْضًا مِنْ النِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ أَوْ مَا هُوَ فِي حُكْمِهِ، وَهُوَ الْمُقَارَنَةُ لِطُلُوعِ الْفَجْرِ بَلْ هُوَ الْأَصْلُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ قِرَانُ النِّيَّةِ بِالصَّوْمِ لَا تَقْدِيمُهَا، وَإِنَّمَا جَازَ التَّقْدِيمُ لِلضَّرُورَةِ، وَمِنْ فُرُوعِ لُزُومِ التَّبْيِيتِ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ لَوْ نَوَى الْقَضَاءَ نَهَارًا فَلَمْ يَصِحَّ هَلْ يَقَعُ عَنْ النَّفْلِ فِي فَتَاوَى النَّسَفِيِّ نَعَمْ، وَلَوْ أَفْطَرَ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ قِيلَ: هَذَا إذَا عَلِمَ أَنَّ صَوْمَهُ عَنْ الْقَضَاءِ لَمْ يَصِحَّ بِنِيَّةِ النَّهَارِ أَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ فَلَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ كَمَا فِي الْمَظْنُونِ كَذَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَاَلَّذِي يَظْهَرُ تَرْجِيحُ الْإِطْلَاقِ فَإِنَّ الْجَهْلَ بِالْأَحْكَامِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ خُصُوصًا أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ أَعْنِي عَدَمَ جَوَازِ الْقَضَاءِ بِنِيَّةٍ نَهَارًا مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا فِيمَا يَظْهَرُ فَلَيْسَ كَالْمَظْنُونِ
وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَضَاءَ النَّفْلِ بَعْدَ إفْسَادِهِ وَقَضَاءَ الْمَنْذُورِ الْمُعَيَّنِ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ وَمَا بَقِيَ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ النِّيَّةَ مِنْ اللَّيْلِ كَافِيَةٌ فِي كُلِّ صَوْمٍ بِشَرْطِ عَدَمِ الرُّجُوعِ عَنْهَا حَتَّى لَوْ نَوَى لَيْلًا أَنْ يَصُومَ غَدًا ثُمَّ عَزَمَ فِي اللَّيْلِ عَلَى الْفِطْرِ لَمْ يُصْبِحْ صَائِمًا فَلَوْ أَفْطَرَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ رَمَضَانُ، وَلَوْ مَضَى عَلَيْهِ لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ تِلْكَ النِّيَّةَ انْتَقَضَتْ بِالرُّجُوعِ، وَلَوْ نَوَى الصَّائِمُ الْفِطْرَ لَمْ يُفْطِرْ حَتَّى يَأْكُلَ، وَكَذَا لَوْ نَوَى التَّكَلُّمَ فِي الصَّلَاةِ كَذَا فِي الظَّهِيرِيَّةِ وَلَوْ قَالَ: نَوَيْت
ــ
[منحة الخالق]
وَالْتُحِقَ بِالصَّحِيحِ فَيَقَعُ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ فَلَيْسَ مُرَادُهُمْ بِهَذَا الْقِسْمِ أَنْ لَا يَضُرَّهُ الصَّوْمُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَإِلَّا كَانَ هَذَيَانًا مِنْ الْقَوْلِ؛ إذْ لَا يَقُولُ عَاقِلٌ بِإِبَاحَةِ الْفِطْرِ لَهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute