للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ابْنَ أَخِي إنَّ هَذَا يَوْمٌ مَنْ مَلَكَ فِيهِ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ غُفِرَ لَهُ» وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مَرْفُوعًا «مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»

وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مَرْفُوعًا «أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ» وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ مَرْفُوعًا «مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا هُوَ أَصْغَرُ وَلَا أَدْحَرُ وَلَا أَغْيَظُ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِمَا يَرَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ وَتَجَاوُزِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ إلَّا مَا رُئِيَ يَوْمَ بَدْرٍ فَإِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ يَزَعُ الْمَلَائِكَةَ» فَإِنَّهَا تَقْتَضِي تَكْفِيرَ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ، وَلَوْ كَانَتْ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ لَكِنْ ذَكَرَ الْأَكْمَلُ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ الذُّنُوبَ السَّالِفَةَ تُحْبَطُ بِالْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ وَالْحَجِّ صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً، وَتَتَنَاوَلُ حُقُوقَ اللَّهِ وَحُقُوقَ الْعِبَادِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَرْبِيِّ حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ لَا يُطَالَبُ بِشَيْءٍ مِنْهَا حَتَّى لَوْ كَانَ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ وَأَحْرَزَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ أَسْلَمَ لَا يُؤَاخَذُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا كَانَ الْإِسْلَامُ كَافِيًا فِي تَحْصِيلِ مُرَادِهِ وَلَكِنْ ذَكَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْهِجْرَةَ وَالْحَجَّ تَأْكِيدًا فِي بِشَارَتِهِ وَتَرْغِيبًا فِي مُبَايَعَتِهِ فَإِنَّ الْهِجْرَةَ وَالْحَجَّ لَا يُكَفِّرَانِ الْمَظَالِمَ، وَلَا يُقْطَعُ فِيهِمَا بِمَحْوِ الْكَبَائِرِ، وَإِنَّمَا يُكَفِّرَانِ الصَّغَائِرَ

وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ وَالْكَبَائِرُ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ أَيْضًا كَالْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَحِينَئِذٍ لَا يُشَكُّ أَنَّ ذِكْرَهُمَا كَانَ لِلتَّأْكِيدِ اهـ.

وَهَكَذَا ذَكَرَ الْإِمَامُ الطِّيبِيِّ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَالَ إنَّ الشَّارِحِينَ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَهَكَذَا ذَكَرَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْكَبَائِرَ لَا يُكَفِّرُهَا إلَّا التَّوْبَةُ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ ظَنِّيَّةٌ، وَأَنَّ الْحَجَّ لَا يُقْطَعُ فِيهِ بِتَكْفِيرِ الْكَبَائِرِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَضْلًا عَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ وَإِنْ قُلْنَا بِالتَّكْفِيرِ لِلْكُلِّ فَلَيْسَ مَعْنَاهُ كَمَا يَتَوَهَّمُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّ الدَّيْنَ يَسْقُطُ عَنْهُ، وَكَذَا قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ وَالصِّيَامَاتِ وَالزَّكَاةِ إذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ إثْمَ مَطْلِ الدَّيْنِ وَتَأْخِيرِهِ يَسْقُطُ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ إذَا مَطَلَ صَارَ آثِمًا الْآنَ، وَكَذَا إثْمُ تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ عَنْ أَوْقَاتِهَا يَرْتَفِعُ بِالْحَجِّ لَا الْقَضَاءُ ثُمَّ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ يُطَالَبُ بِالْقَضَاءِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ كَانَ آثِمًا عَلَى الْقَوْلِ بِفَوْرِيَّتِهِ، وَكَذَا الْبَقِيَّةُ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ وَبِالْجُمْلَةِ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِمُقْتَضَى عُمُومِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الْحَجِّ كَمَا لَا يَخْفَى.

وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ مُلَبِّيًا إلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ يَقْطَعُهَا إذَا وَقَفَ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْوُقُوفَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَهُوَ أَعْظَمُ أَرْكَانِهِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «الْحَجُّ عَرَفَةَ» وَشَرْطُهُ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا كَوْنُهُ

ــ

[منحة الخالق]

(قَوْلُهُ تُحْبَطُ بِالْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ وَالْحَجِّ) أَيْ بِمَجْمُوعِ الثَّلَاثَةِ لَا بِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى انْفِرَادِهِ. (قَوْلُهُ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ إثْمَ مَطْلِ الدَّيْنِ وَتَأْخِيرِهِ يَسْقُطُ إلَخْ) أَقُولُ: بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَخَّرَ صَلَاةً عَنْ وَقْتِهَا فَقَدْ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً وَهِيَ التَّأْخِيرُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ وَهُوَ الْقَضَاءُ وَكَذَا إذَا مَطَلَ الدَّيْنَ، وَكَذَا إذَا قَتَلَ أَحَدًا ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً وَهِيَ الْجِنَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ مُخَالِفًا نَهْيَ الرَّبِّ تَعَالَى وَوَجَبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ وَهُوَ تَسْلِيمُ نَفْسِهِ لِلْقِصَاصِ إنْ كَانَ عَمْدًا أَوْ تَسْلِيمُ الدِّيَةِ وَكَذَا نَظَائِرُ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ مَعْصِيَةً يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا وَاجِبٌ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْوَاجِبُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ حُقُوقِ الْعَبْدِ فَمَا وَرَدَ مِنْ تَكْفِيرِ الْحَجِّ لِلْكَبَائِرِ، وَالْمُرَادُ تَكْفِيرُهُ لِلْمَعَاصِي الْكَبَائِرِ كَتَأْخِيرِ الصَّلَاةِ وَمَطْلِ الدَّيْنِ وَالْجِنَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ

وَأَمَّا الْوَاجِبَاتُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى تِلْكَ الْمَعَاصِي مِنْ لُزُومِ قَضَاءِ الصَّلَاةِ وَأَدَاءِ الدَّيْنِ وَتَسْلِيمِ نَفْسِهِ لِلْقِصَاصِ أَوْ تَسْلِيمِ الدِّيَةِ فَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ؛ لِأَنَّ التَّكْفِيرَ إنَّمَا يَكُونُ لِلذَّنْبِ وَهَذِهِ وَاجِبَاتٌ لَا ذُنُوبٌ حَتَّى تَسْقُطَ أَلَا تَرَى أَنَّ التَّوْبَةَ تُكَفِّرُ الذُّنُوبَ بِالِاتِّفَاقِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ سُقُوطُ الْوَاجِبَاتِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى تِلْكَ الذُّنُوبِ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ مِنْ ذَنْبٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وَاجِبٌ لَا تَتِمُّ إلَّا بِفِعْلِ ذَلِكَ الْوَاجِبِ فَمَنْ غَصَبَ شَيْئًا ثُمَّ تَابَ لَا تَتِمُّ تَوْبَتُهُ إلَّا بِضَمَانِ مَا غَصَبَ فَمَا بَالُك بِالْحَجِّ الَّذِي فِيهِ النِّزَاعُ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِنَا لَا تَتِمُّ تَوْبَتُهُ إلَّا بِفِعْلِ الْوَاجِبِ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الْغَصْبِ فِي الْآخِرَةِ إلَّا بِذَلِكَ وَإِلَّا فَلَوْ غَصَبَ وَتَابَ عَنْ فِعْلِ الْغَصْبِ الْمَذْكُورِ وَحَبَسَ الشَّيْءَ الْمَغْصُوبَ عِنْدَهُ وَمَنَعَ صَاحِبَهُ عَنْهُ، وَقَدْ عَزَمَ عَلَى رَدِّهِ إلَى صَاحِبِهِ تَصِحُّ تَوْبَتُهُ وَإِنْ بَقِيَتْ ذِمَّتُهُ مَشْغُولَةً بِهِ إلَى أَنْ يَرُدَّهُ إلَى صَاحِبِهِ فَحِينَئِذٍ تَتِمُّ تَوْبَتُهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَتِهِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَكَذَا يُقَالُ فِي مَطْلِ الدَّيْنِ وَتَأْخِيرِ الصَّلَاةِ فَقَدْ ظَهَرَ بِمَا قَرَّرْنَاهُ أَنَّ الْحَجَّ كَالتَّوْبَةِ فِي تَكْفِيرِ الْكَبَائِرِ سَوَاءٌ تَعَلَّقَتْ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِحُقُوقِ الْعَبْدِ أَوْ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِحَقِّ أَحَدٍ أَيْ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهَا وَاجِبٌ آخَرُ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ فَيُكَفِّرُ الْحَجُّ الذَّنْبَ وَيَبْقَى حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقُّ الْعَبْدِ فِي ذِمَّتِهِ إنْ كَانَ ذَنْبًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حَقُّ أَحَدِهِمَا كَمَا قَرَّرَنَا، وَإِلَّا فَلَا يَبْقَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فَاغْتَنِمْ هَذَا التَّحْرِيرَ الْفَرِيدَ فَإِنَّ بِهِ يَتَّضِحُ الْمَرَامُ وَتَنْدَفِعُ الشُّبْهَةُ وَالْأَوْهَامُ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ الْعَلَّامَةُ إبْرَاهِيمُ اللَّقَانِيُّ فِي شَرْحِهِ الْكَبِيرِ عَلَى مَنْظُومَتِهِ فِي التَّوْحِيدِ فَقَالَ إنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ حَجَّ الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» لَا يَتَنَاوَلُ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقَ عِبَادِهِ؛ لِأَنَّهَا فِي الذِّمَّةِ لَيْسَتْ ذَنْبًا، وَإِنَّمَا الذَّنْبُ الْمَطْلُ فِيهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إسْقَاطِ صَاحِبِهِ فَاَلَّذِي يَسْقُطُ إثْمُ مُخَالَفَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَطْ اهـ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(قَوْلُهُ أَحَدُهُمَا كَوْنُهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>