فَطُبِخَتْ فَأَكَلَا مِنْ لَحْمِهَا وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا ثُمَّ رَكِبَ إلَى الْبَيْتِ فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ» قَالَ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحِكْمَةُ فِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً أَنَّهُ كَانَ لَهُ يَوْمئِذٍ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً فَنَحَرَ لِكُلِّ سَنَةٍ بَدَنَةً.
(قَوْلُهُ ثُمَّ احْلِقْ أَوْ قَصِّرْ والْحَلْقُ أَحَبُّ) بَيَانٌ لِلْوَاجِبِ وَالْمُرَادُ بِالْحَلْقِ إزَالَةُ شَعْرِ رُبْعِ الرَّأْسِ إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا بِأَنْ كَانَ أَقْرَعَ فَيَجْرِي الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ إنْ أَمْكَنَ وَأَحَبُّ عَلَى الْمُخْتَارِ وَإِلَّا بِأَنْ كَانَ عَلَى رَأْسِهِ قُرُوحٌ لَا يُمْكِنُهُ إمْرَارُ الْمُوسَى عَلَيْهِ وَلَا يَصِلُ إلَى تَقْصِيرِهِ فَقَدْ سَقَطَ هَذَا الْوَاجِبُ وَحَلَّ كَمَنْ حَلَقَهَا، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُؤَخِّرَ الْإِحْلَالَ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ وَلَوْ أَمْكَنَهُ الْحَلْقُ لَكِنْ لَمْ يَجِدْ آلَةً وَلَا مَنْ يَحْلِقُهَا فَلَيْسَ بِعُذْرٍ وَلَيْسَ لَهُ الْإِحْلَالُ؛ لِأَنَّ إصَابَةَ الْآلَةِ مَرْجُوٌّ فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَلَا كَذَلِكَ بُرْءُ الْقُرُوحِ وَانْدِمَالُهَا وَالْإِزَالَةُ لَا تَخْتَصُّ بِالْمُوسَى بَلْ بِأَيِّ آلَةٍ كَانَتْ أَوْ بِالنُّورَةِ، وَالْمُسْتَحَبُّ الْحَلْقُ بِالْمُوسَى؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ وَرَدَتْ بِهِ وَالْمُرَادُ بِالتَّقْصِيرِ أَنْ يَأْخُذَ الرَّجُلُ أَوْ الْمَرْأَةُ مِنْ رُءُوسِ شَعْرِ رُبْعِ الرَّأْسِ مِقْدَارَ الْأُنْمُلَةِ كَذَا ذَكَرَ الشَّارِحُ، وَمُرَادُهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ شَعْرَةٍ مِقْدَارَ الْأُنْمُلَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمُحِيطِ وَفِي الْبَدَائِعِ قَالُوا يَجِبُ أَنْ يَزِيدَ فِي التَّقْصِيرِ عَلَى قَدْرِ الْأُنْمُلَةِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ قَدْرَ الْأُنْمُلَةِ مِنْ كُلِّ شَعْرَةٍ بِرَأْسِهِ؛ لِأَنَّ أَطْرَافَ الشَّعْرِ غَيْرُ مُتَسَاوٍ عَادَةً قَالَ الْحَلَبِيُّ فِي مَنَاسِكِهِ وَهُوَ حَسَنٌ، وَالْأُنْمُلَةُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ وَضَمُّ الْمِيمِ لُغَةً مَشْهُورَةً، وَمَنْ خَطَّأَ رَاوِيَهَا فَقَدْ أَخْطَأَ وَاحِدَةَ الْأَنَامِلِ ثُمَّ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ عَدَمِ الْعُذْرِ فَلَوْ تَعَذَّرَ الْحَلْقُ لِعَارِضٍ تَعَيَّنَ التَّقْصِيرُ، أَوْ التَّقْصِيرُ تَعَيَّنَ الْحَلْقُ كَأَنْ لَبَدَهُ بِصَمْغٍ فَلَا يُعْمَلُ فِيهِ الْمِقْرَاضُ، وَإِنَّمَا كَانَ الْحَلْقُ أَفْضَلَ لِدُعَائِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِلْمُحَلِّقِينَ بِالرَّحْمَةِ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَفِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ لِلْمُقَصِّرِينَ بِهَا، وَيُسْتَحَبُّ حَلْقُ الْكُلِّ لِلِاتِّبَاعِ وَلَمْ يَذْكُرْ سُنَنَ الْحَلْقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخُصُّ الْحَلْقَ فِي الْحَجِّ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْحَلْقِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ مُسْتَحَبٌّ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْقُنْيَةِ وَيُعْتَبَرُ فِي سُنَّتِهِ الْبُدَاءَةُ بِالْيَمِينِ لِلْحَالِقِ لَا الْمَحْلُوقِ فَيَبْدَأُ بِشِقِّهِ الْأَيْسَرِ وَمُقْتَضَى النَّصِّ الْبُدَاءَةُ بِيَمِينِ الرَّأْسِ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ لِلْحَلَّاقِ خُذْ وَأَشَارَ إلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ الْأَيْسَرِ ثُمَّ جَعَلَ يُعْطِيهِ النَّاسَ» وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ أَنَّهُ هُوَ الصَّوَابُ وَهُوَ خِلَافُ مَا ذَكَرَ فِي الْمَذْهَبِ، وَيُسْتَحَبُّ دَفْنُ شَعْرِهِ وَالدُّعَاءُ عِنْدَ الْحَلْقِ وَبَعْدَ الْفَرَاغِ مَعَ التَّكْبِيرِ وَإِنْ رَمَى الشَّعْرَ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَكُرِهَ إلْقَاؤُهُ فِي الْكَنِيفِ وَالْمُغْتَسَلِ كَذَا فِي فَتَاوَى الْعَلَّامِيِّ وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَقُصَّ أَظْفَارَهُ وَشَوَارِبَهُ بَعْدَ الْحَلْقِ لِلِاتِّبَاعِ وَلَا يَأْخُذْ مِنْ لِحْيَتِهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ مُثْلَةٌ وَلَوْ فَعَلَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ.
(قَوْلُهُ وَحَلَّ لَك غَيْرُ النِّسَاءِ) أَيْ بِالْحَلْقِ أَيْ فَحَلَّ التَّطَيُّبُ لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ «عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ طَيَّبْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحُرْمِهِ حِينَ أَحْرَمَ وَلِحِلِّهِ حِينَ أَحَلَّ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ» وَحُرِّمَ الدَّوَاعِي كَالْوَطْءِ أَفَادَ أَنَّهُ لَيْسَ قَبْلَ الْحَلْقِ تَحْلِيلٌ لِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ حَلَالًا بِالْإِحْرَامِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي الْمَبْسُوطِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي الْحَجِّ إحْلَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا بِالْحَلْقِ وَالثَّانِي بِالطَّوَافِ وَمَا فِي الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَنَّ الرَّمْيَ لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ عِنْدَنَا يُخَالِفُهُ مَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ، وَلَفْظُهُ وَبَعْدَ الرَّمْيِ قَبْلَ الْحَلْقِ يَحِلُّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا الطِّيبَ وَالنِّسَاءَ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يَحِلُّ لَهُ الطِّيبُ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ لَا يَحِلُّ لَهُ النِّسَاءُ، وَالصَّحِيحُ مَا قُلْنَا؛ لِأَنَّ الطِّيبَ دَاعٍ إلَى الْجِمَاعِ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا حِلَّ الطِّيبِ بَعْدَ الْحَلْقِ قَبْلَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ بِالْأَثَرِ اهـ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْكَمَ بِضَعْفِ مَا فِي الْفَتَاوَى لِمَا قَدَّمْنَا وَلِمَا فِي الْمُحِيطِ وَلَفْظُهُ
ــ
[منحة الخالق]
نَسَبَ إلَيْهِ هَذَا التَّقْيِيدَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُصَرِّحًا بِهِ وَكَذَا مَا بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ فَهُوَ مِمَّا تَضْمَنَّهُ كَلَامُهُ.
(قَوْلُهُ وَمُرَادُهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ شَعْرَةٍ إلَخْ) قَالَ فِي الشرنبلالية قُلْت يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْمُرَادَ بِكُلِّ شَعْرَةٍ أَيْ مِنْ شَعْرِ الرُّبْعِ عَلَى وَجْهِ اللُّزُومِ أَوْ مِنْ الْكُلِّ عَلَى سَبِيلِ الْأَوْلَوِيَّةِ فَلَا مُخَالَفَةَ فِي الْأَجْزَاءِ؛ لِأَنَّ الرُّبْعَ كَالْكُلِّ كَمَا فِي الْحَلْقِ. (قَوْلُهُ وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ أَنَّهُ هُوَ الصَّوَابُ) قَالَ فِي النَّهْرِ وَيُوَافِقُهُ مَا فِي الْمُلْتَقَطِ عَنْ الْإِمَامِ حَلَقْت رَأْسِي بِمَكَّةَ فَخَطَّأَنِي الْحَلَّاقُ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ لَمَّا أَنْ جَلَسْت قَالَ اسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ وَنَاوَلْته الْجَانِبَ الْأَيْسَرَ فَقَالَ ابْدَأْ بِالْأَيْمَنِ فَلَمَّا أَرَدْت أَنْ أَذْهَبَ قَالَ ادْفِنْ شَعْرَك فَرَجَعْت فَدَفَنْته اهـ.
قُلْت وَفِي الْمِعْرَاجِ رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَلَقَ رَأْسَهُ مِنْ يَمِينِ الْحَالِقِ» وَعَنْ الشَّافِعِيِّ مِنْ يَمِينِ الْمَحْلُوقِ فَاعْتَبَرْنَا يَمِينَ الْحَالِقِ وَهُوَ يَمِينُ الْمَحْلُوقِ قَالَ الْكَرْمَانِيُّ ذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَلَمْ يَعْزِهِ إلَى أَحَدٍ بَلْ الْأَوْلَى اتِّبَاعُ السُّنَّةِ فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَدَأَ بِيَمِينِهِ فِي الصَّحِيحِ، وَقَدْ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِقَوْلِ الْحَجَّامِ حِينَ قَالَ اُدْنُ الشِّقَّ الْأَيْمَنَ مِنْ رَأْسِك وَفِيهِ حِكَايَةٌ مَعْرُوفَةٌ اهـ.
وَهَذَا أَيْضًا يُؤَيِّدُ مَا اسْتَصْوَبَهُ فِي الْفَتْحِ، وَيُفِيدُ أَنَّ خِلَافَهُ لَيْسَ مِمَّا ثَبَتَ عِنْدَ أَهْلِ الْمَذْهَبِ.
(قَوْلُهُ وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْكَمَ بِضَعْفِ مَا فِي الْفَتَاوَى) قَالَ فِي الشرنبلالية أَقُولُ: لَمْ يَقْتَصِرْ قَاضِي خَانْ عَلَى مَا نَقَلَهُ عَنْهُ فِي الْبَحْرِ؛ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى مَا يُوَافِقُ الْهِدَايَةَ أَيْضًا قَبْلَ هَذَا بِقَوْلِهِ: وَالْخُرُوجُ عَنْ الْإِحْرَامِ إنَّمَا يَكُونُ بِالْحَلْقِ أَوْ التَّقْصِيرِ فَإِذَا حَلَقَ أَوْ قَصَّرَ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ مَا لَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ مَرْوِيُّ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ النَّبِيِّ