ويتبادر لنا أنها استهدفت بنوع خاص التنديد بأذكياء الكفّار ونبهائهم الذين كان لهم من رجاحة العقل وسعة المعارف ما يجعلهم يدركون بيسر ما في دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم من صدق وسموّ وروحانية وحقّ، فأصروا مع ذلك عن قصد وهوى على مواقف العناد والمكابرة. ولعلّ فيها تعليلا لموقفهم من الدعوة وتسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين.
وهذه الطبقة كانت موجودة. وقد اهتدى منها من اهتدى من الرعيل الأول المؤمنين واستكبر الآخرون وكابروا. وقد احتوى القرآن إشارات عديدة إليهم ووصفهم بأنهم اتخذوا هواهم آلهة لهم عن علم ونيّة كما جاء في آية سورة الجاثية هذه: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣) وآية سورة الفرقان هذه: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (٤٣) وقد كان فريق من هذه الطبقة يتمنون أن يبعث الله فيهم نذيرا منهم ويقسمون على اتباعه والاهتداء بهديه ثم استكبروا ونكثوا استكبارا ومكر السيئ كما جاء في آيات سورة فاطر هذه:
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (٤٣) وكان من هذه الطبقة من يتحدّى النبي صلّى الله عليه وسلّم ويقولون له لو شئنا لقلنا مثل ما تقول كما جاء في آية سورة الأنفال هذه: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١) .
ومن مقاصد المثل على ما هو المتبادر تقرير كون سلامة النيّة والقلب وصدق الرغبة في الاهتداء هو الجوهري ولا عبرة بالعلم والاطلاع إذا كانت النيّة خبيثة والسجيّة فاسدة والنفس دنيئة الرغبات والمطالب، خاضعة للهوى والمآرب.
وصاحب هذه الصفات لا يرتفع إذا ما أوتي العلم إلى المقام الرفيع الذي يجدر أن يرتفع إليه بعلمه ويظلّ ينحطّ ويرتكس دون أن ينفعه علم ولا عظة ولا عبرة.