يحاول أولئك الكتّاب العرب خاصة تهوين هذا التراث العظيم والبناء الباذخ، وهم يعرفون أنهم إنما يحاولون عبثا لا جدوى فيه.
- ٩- تطور سيرة النبي والتنزيل القرآني:
والمناسبة تسمح كذلك بتنبيه واستطراد آخر. فقد حلا للمستشرقين والمبشرين أن يستعملوا تعبيرا عجيبا في معرض الإشارة إلى تطور السيرة النبوية في العهد المدني فيقولون إن النبي في هذا العهد انقلب من نبي إلى حاكم أو صار سلطانا أكثر منه نبيا أو ما في معناه، وقد اتخذ بعضهم بعض ما روته الروايات أو ما تبادر لهم أنهم فهموه من عباراتها أو من عبارات القرآن في صدد بعض أحداث السيرة النبوية الشخصية والعامة في العهد المذكور وسيلة للطعن والغمز، والقول إن النبي قد نقض المبادئ التي بشر بها ودعا إليها في مكة وخالفها.
أما أن السيرة النبوية في العهد المدني قد تطورت فهذا مما لا شك فيه وفي القرآن شواهد حاسمة عليه غير أن هذا لا يقتضي أن يكون النبي قد انقلب إلى حاكم أو صار سلطانا أكثر منه نبيا. لأن في القول تحكما في تعيين مدى «النبي» ومهمته لا يستند إلى دليل راهن، كما أن القول إن النبي قد نقض المبادئ التي بشر بها في مكة وخالفها خطأ فاحش لا يستند إلى حق أو شبهة من حق. والقرآن هو الحكم الحاسم والقول الفاصل في هذا وذاك، لأنه من جهة احتوى مبادئ وقواعد من شأنها تعيين مدى مهمة «النبي» ، ومن جهة احتوى صورا للسيرة النبوية في مختلف أدوارها وعهديها. فعدم النفوذ إلى مدى الآيات والفصول القرآنية أو عدم الإحاطة بها لا يمكن أن يغير حقيقة ما احتواه من هذا وذاك بطبيعة الحال، كما أنه إذا كان هناك روايات متعارضة مع هذه المحتويات فإنها تكون مدسوسة أو محرفة من دون ريب. والمماراة في ذلك مكابرة تنشأ عن الغرض وسوء النية والقصد حتما.