ونعتقد أن ذلك من أسباب ما جعل الكتابيين في مكة ينضوون إلى الإسلام تحت راية القرآن والنبي لأنهم رأوا في ذلك خلاصا مما هم مرتكسون فيه، بالإضافة إلى ما عرفوه من الحق وعاينوه من أعلام النبوة.
ولا شك في أن سامعي القرآن من العرب كانوا يعلمون ويرون مصداق ما سجله القرآن. وما حكته عنهم آية سورة فاطر هذه وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ. [٤٢] دليل على ذلك. ولعل الحكمة في ما جاء في صدد ذلك في القرآن تنبيه سامعي القرآن العرب إلى الحقيقة التي يعرفونها حتى لا يتأثروا بمواقف المكابرة والمناوأة التي قد يقفها بعضهم لرسالة النبي والقرآن ويظنوا أن ذلك منهم عن علم وحق أولا، وحتى يتعظ المؤمنون فلا يرتكسوا فيما ارتكس فيه أهل الكتاب من انحراف وشذوذ لمارب لا تمت إلى الحق والحقيقة.
ولقد قلنا في سياق شرح الآيات السابقة إن المبشر الذي سمى نفسه (الأستاذ حداد) قال عن هذه الآيات أيضا إنها مقحمة لاختلاف رويها عن ما بعدها وقبلها.
وقال إن الاختلاف إنما كان في العهد المدني. وقد فندنا دعوى الإقحام في سياق التعليق على الآيات السابقة ونقول في صدد دعوى الاختلاف في العهد المدني إنه يغالط في الكلام. فالاختلاف المذكور في الآية ليس هو الاختلاف الذي نشب بين النبي وأهل الكتاب وبخاصة اليهود في المدينة وإنما هو الاختلاف الذي كان بين أهل الكتاب ونحلهم فيما بينهم. وكان هذا أمرا مشهورا مشهودا ممتدا إلى ما قبل بعثة النبي. وقد تكررت الإشارة إليه في القرآن المكي كما جاء في آيات سورة يونس [٩٣] والنحل [٦٤ و ١٢٤] والمؤمنون [٥١ و ٥٢] والنمل [٧٦] والسجدة [٢٥] والشورى [١٤] والزخرف [٦٤ و ٦٥] والجاثية [١٧] .
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٤١ الى ٥٨]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥)