فُرُطاً (٢٨) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [٢٨- ٢٩] مما يدل على أن هذا الموضوع كان مما يكثر الأخذ والرد فيه بين النبي وزعماء الكفار أو كانت صوره تتكرر فتقتضي حكمة التنزيل موالاة التنبيه والتحذير والتعليم للنبي صلى الله عليه وسلم.
على أنه يتبادر لنا من روح الآيات وعطفها على ما سبقها، ومن روح الآيات التالية لها أنها لم تنزل بمناسبة موقف من مثل هذه المواقف مباشرة، وإنما نزلت استمرارا واستئنافا للسياق الذي فيه حكاية مواقف الكفار وتعجيزاتهم، وإن كان من المحتمل أن يكون حدث حادث من نوع ما ذكرته الروايات والحديث الصحيح في ظروف نزولها أو قبله فأشير إليه.
وإنعام النظر في مدى الآيات ومضمونها يجعل الناظر يرى فيها صورة رائعة من سمو الأهداف القرآنية في إعلاء شأن المؤمن الصالح مهما كان فقيرا أو متخلفا في السلّم الاجتماعي وفي تقرير حق تقدمه على الكافر الشرير مهما كان غنيا عالي الدرجة، كما يجعله يرى فيها مبادئ جليلة الشأن حيث يؤذن القرآن عدم إقرار التمايز العلني وتفاضل الناس على أساسه بل ويقضي عليه، ويقرر الأفضلية للعمل الصالح والنية الحسنة وطهارة القلب، ويفتح الباب للمسيء عن جهل للدخول في حظيرة الصلاح بتوبته عن الفساد وبعمله الصالح، ويندد بمن يتبجح بعلوّ طبقته ويحتقر ما دونه.