فلم يقدروا هذه النعمة أيضا حق قدرها وتحدوا الله بأقوامهم أو أفعالهم أن يباعد بين أسفارهم فظلموا بذلك أنفسهم وآذوها إذ سببوا انصباب نقمة الله وغضبه عليهم، فمزقهم في الأرض كل ممزق وجعلهم أحاديث الناس وموضوع نقدهم وتثريبهم ومضرب مثلهم.
وقد انتهت الآيات بتقرير رباني بأن في كل ذلك آيات وعبرا لا يدرك مغزاها ولا ينتفع بها إلّا كل صبار ثابت على الإخلاص لله، شاكر لنعمه وأفضاله قولا وعملا.
[تعليق على قصة سبأ وسيل العرم]
والآيات كما هو المتبادر تحتوي مثلا ثانيا مضروبا لمشركي العرب وجاحدي النبوة المحمدية تعقيبا على المثل الأول، فداود وسليمان شكرا الله وعملا الصالحات على ما كان لهما من ملك وعظمة شأن، فأسبغ الله عليهما نعمه وأفضاله وسخر لهما قوى الكون المتنوعة.
وأهل سبأ انحرفوا عن جادة الحق وكفروا بنعمة الله فعاقبهم ومزقهم وجعلهم أحاديث للناس.
ومن هنا يظل الاتصال قائما مستمرا بين هذه الآيات والآيات السابقة. وروح الآيات ومضمونها يلهمان أن ما كان من أمر سبأ وما صاروا إليه ليس غريبا على السامعين، وهذا ما يجعل العبرة والمثل قويين وملزمين هنا أيضا.
وسيل العرم من الحوادث التي أطنبت فيها الكتب العربية القديمة بناء على الروايات المتداولة من عهد الجاهلية «١» . وقد ذكرت فيما ذكرته أن السيل اقتلع السدّ وطغى على القرى والجنات فخربها فأدى ذلك إلى هجرة كثير من قبائل اليمن إلى شمال جزيرة العرب وسواحلها الشرقية وبلاد الشام والعراق، منهم الأوس والخزرج الذين نزلوا في يثرب «المدينة المنورة» ، ومنهم الغساسنة الذين أنشئوا
(١) انظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري وابن كثير والخازن والبغوي والطبرسي والزمخشري، انظر أيضا بلوغ الأرب في أحوال العرب للآلوسي ج ٣ ص ٢٨٧- ٢٨٨.