إن ما قلناه في سياق قصتي داود وسليمان عليهما السلام في سورة ص اللتين جاءتا عقب ذكر تمرد الأقوام الأولى ومواقف كفار العرب من الرسالة النبوية من كون الهدف الرئيسي للقصتين هو التنويه بما كان من إخلاص داود وسليمان لله تعالى مع ما وصل إليه ملكهما من عظمة وقوة بسبيل تسلية النبي صلى الله عليه وسلم يقال هنا بتمامه. فإذا كان فرعون استكبر وظلم وجحد بآيات الله فإن داود وسليمان عليهما السلام صاحبي الملك العظيم المسخر لهما قوى الكون الهائلة لم يغتروا بذلك وظلوا منيبين لله معترفين بفضله. يلتمسون منه أن يدخلهم في عباده الصالحين.
ويلحظ أن ذكر داود وسليمان وملكهما وعظمته قد جاء هنا عقب ذكر فرعون وتمرده مما فيه تساوق أسلوبي ونظمي مع سياق قصتهما في سورة (ص) مما فيه تدعيم لما نبهنا عليه من الهدف الرئيسي الذي استهدف هنا كما استهدف في تلك السورة. وبالإضافة إلى ذلك فإن من مواضع العبرة في الحلقة الحوار الذي حكته الآيات بين ملكة سبأ ورجال دولتها حيث احتوى حكما جليلة في صدد سياسة الملك. فالملكة تعلن أنها ما كانت مستبدة ولا ظالمة ولا قاطعة أمرا إلا بعد مشاورة أولي الرأي في مملكتها. وواضح أن كلمة (الملوك) التي وردت في كلامها تعني الملوك الأجانب حيث تقرر أنهم إذا غزوا بلادا ما واحتلوها انصرف همّهم إلى إفساد تلك البلاد وجعل أعزة أهلها أذلة. وإن من الواجب وقاية البلاد من أخطارهم بأي وسيلة. مما فيه حكمة اجتماعية رائعة خالدة. وأسلوب الحوار وإن كان قصصيا ففيه ما يلهم قصد التنويه بما حكاه عن لسان الملكة والدعوة إلى التأسي به وجعله خطة يسار عليها وهي خطة حكيمة سليمة حقا.
ومن ذلك إسلام ملكة سبأ لله بعد أن سمعت من سليمان عليه السلام ما سمعت من حكمة وعظة، حيث ينطوي في هذا تقرير بأنه إذا كان الكفار لا يستجيبون إلى دعوة الله فهناك من عظماء الملوك من كان كافرا فاستجاب إلى هذه الدعوة وأسلم نفسه لله تعالى مع نبيه.