وفي هذا من الجلال والروعة ما يعلو فوق كل مستوى، وما يدل على عظمة براعة استهلال القرآن الكريم والدعوة الإسلامية وبعد مداها، وقوة عناصر خلودها.
ولقد احتوت سور القرآن المكية والمدنية بعد هذه السورة آيات كثيرة جدا في التنويه بالكتاب والقرآن والعلم والعلماء والحثّ على العلم والتعلّم وبيان مسؤولية أهل العلم والذكر. وهو ما يزيد من جلال هذه البراعة وعظم مداها.
والمتبادر أنه لا يقصد بالإشارة إلى خلق الإنسان من علق تقرير حقيقة تشريحية، ولا تخصيص الإنسان وحده بالخلق من علق دون غيره من الحيوان، وإنما قصد التنبيه على مظهر من مظاهر قدرة الله في نواميسه على إخراج إنسان كامل في صورته وأعضائه وحواسه من شيء تافه في مظهره المادي، وقد اختص الإنسان بالذكر لأنه موضوع الخطاب في الآيات، وهذا أسلوب قرآني عام. وهو الأسلوب التنبيهي الموجه إلى مختلف الطبقات في المناسبات الملائمة بما تتناوله عقولهم وحواسهم، وبقصد الموعظة والهداية.
وبناء على هذا فلا نرى محلا ولا ضرورة إلى الاستطراد إلى حقائق تشريحية عن خلق الإنسان وتكوينه لأن ذلك ليس من أهداف الجملة القرآنية، ونرى وجوب الوقوف عند ما ذكرناه من هدفها على ما نبهنا عليه في المقدمة.
هذا، ولقد تعددت السور التي تبدأ بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم ببعض الأفعال والأقوال مما يمكن أن يعد أسلوبا من أساليب النظم القرآني في مطالع السور.
[سورة العلق (٩٦) : الآيات ٦ الى ١٩]
كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠)
أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (١٤) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥)
ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (١٩)
(١) كلّا: حرف ردع وزجر. وقال المفسرون إنها في المقام الذي تأتي فيه بمعنى أيها الناس ارتدعوا وازدجروا فالأمر أعظم مما ظننتم. وقد وردت كثيرا ولا سيما في السور المبكرة في النزول الذي يشتد فيها الإنذار والتنبيه والتنديد ووردت كذلك في معرض التنديد والاستدراك والتثبيت وكثرة ورودها في القرآن تدل على أنها مما كان مستفيضا في أساليب الخطاب العربي.
(٢) يطغى: يتجاوز الحد في العدوان والبغي.
(٣) استغنى: ظن نفسه مستغنيا، أو رأى نفسه غنيا. والكلمة هنا بمعنى (رأى نفسه غنيا بماله) على ما عليه الجمهور. واستعملت الكلمة بمعنى (رأى نفسه غنيا عن مساعدة الغير فتمنع وتكبر) كما في آيات سورة عبس هذه: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (٧) . وأصل معنى كلمة (غني) غير المحتاج سواء أكانت الحاجة مالا أو غيره. وقد وصف الله جلّ جلاله نفسه بها في آيات كثيرة.
(٤) التقوى: الاتقاء من عذاب الله بصالح العمل.
(٥) تولّى: ذهب دون أن يصغي للدعوة ويهتم لها.
(٦) السفع: الأخذ أو الجذب بقوة، واللطم بشدة.
(٧) الناصية: مقدم الوجه أو شعر الجبهة.
(٨) ناديه: النادي: مجلس القوم، والمقصود أهل المجلس.
(٩) الزبانية: الموكلون بالعذاب.
(١٠) اسجد: أمر بالسجود لله. والسجود هو وضع الجبهة على الأرض في معرض عبادة الله وتعظيمه والخضوع له.
(١١) اقترب: تقرب إلى الله بالسجود.