وقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآية الأولى مدنية. وقد روى المفسرون أنها نزلت بمناسبة امتناع يهودي من إسلاف النبي صلى الله عليه وسلم مالا كان يريد أن ينفقه في قرى ضيف وفد عليه إلا برهن. مما حزّ في نفسه وجعله يقول لو أسلفني لأديته وإني لأمين في السماء، أمين في الأرض. ثم أرسل درعه رهنا. والرواية لم ترد في كتب الصحاح. وقد يكون الحادث المروي صحيحا. ولكنا نلحظ أن الآية منسجمة مع السياق سبكا وموضوعا. ومعطوفة على ما قبلها. وصلتها بالآية السابقة لها واضحة بحيث يبرر كل هذا الشك في رواية مدنية الآية ورواية نزولها بمناسبة ذلك الحادث. وترجيح مكيتها وصلتها بظروف سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المكي. وفي سورة الحجر آية مشابهة لهذه الآية وهي الآية [٨٨] جاءت في سياق مماثل حيث ينطوي في هذا تدعيم لذلك الشك وهذا الترجيح والله أعلم.
والمتبادر أن الآيتين معا تتمة للخطاب الموجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الآية السابقة لهما مباشرة. ويبدو أن النبي صلى الله عليه وسلم أو أن المسلمين كانوا أحيانا يتعجبون من إمداد الله زعماء الكفار وأغنياءهم بما يتمتعون به من رفاهة ونعيم وثروات مما هو طبيعي الورود على الخاطر فاقتضت حكمة التنزيل أن يكون في السياق الذي يذكر فيه مصير الكفار ويطلب فيه من النبي صلى الله عليه وسلم الصبر على ما يقولون. هاتان الآيتان لتبيين واقع الأمر من هذا الذي يتمتعون به وبث الطمأنينة والرضاء والغبطة في قلب النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بما عند الله تعالى وبالعاقبة المضمونة لهم، وتقرير كون ما يتمتع به الكفار هو من قبيل الاختبار. ولعل زعماء الكفار وأغنياءهم كانوا يتبجحون بما هم فيه من نعيم ورفاهة ويزهون على المسلمين على اعتبار أن الله لو كان ساخطا عليهم كما يقولون لما كان أدام عليهم نعمه فكان ذلك مما يحز في نفوسهم. ولقد ذكر شيء مما كان يدور في أذهان أغنياء الكفار وزعمائهم من مثل ذلك في آيات عديدة منها آيات سورة المؤمنون هذه أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦) ولقد تضمنت آية سورة مريم [٧٣] شيئا من هذا على ما شرحناه في سياق تفسيرها قبل هذه السورة. ولقد تكرر التنبيه إلى أن ما يتمتع به الكفار هو من قبيل الاستدراج والإمهال على ما جاء في آيات سورة