والروايات تقتضي أن تكون كل فقرة من فقرتي الآية الأولى نزلت لحدتها وأن تكون نزلت منفصلة عن ما سبقها وما لحقها. والرواية المروية عن اليهود تقتضي أن تكون الآية مدنية. ورواية منع الجهر بالقرآن تفاديا من سب الكفار وهي الوثيقة من سائر الروايات غريبة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتلو القرآن عليهم في كل موقف من مواقف دعوته، وهذا من أسس مهمته. ومأمور به في آيات عديدة منها آيات في سورة النمل التي مرّ تفسيرها وهي [٩١- ٩٢] ولم يمتنع من ذلك قط، وكان يقابل بقولهم إن هذا إلّا أساطير الأولين. كما حكته آيات عديدة مرّ بعضها في السور التي فسرناها سابقا. وفي سورة الحج آية مهمة فيها حكاية موقف تهديدي للنبي ورد عليه بتهديد رهيب وهي هذه وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢) ثم استمر في تلاوة آيات القرآن بدون مبالاة تنفيذا لأمر ربه ومهمته منذرا حينا منددا حينا مقرعا حينا مفصلا داعيا مبشرا حينا بدون انقطاع كما هو المستفاد من السور المكية جميعها بحيث يكون في كل ذلك دلالة حاسمة.
ويتبادر لنا بالنسبة للفقرة الأولى من الآية الأولى أنه كان في نفوس بعض المسلمين بعض التردد في صيغة دعاء الله تعالى وفيما إذا كان يجوز أن يذكر اسم الرحمن في مقام كلمة (الله) فأريد بها بيان ما هو جوهري في الأمر وهو الإخلاص لله والاتجاه له وحده. فله أحسن الأسماء، وبأيّها دعاه المخلص أجزأه. ويتبادر لنا بالنسبة للفقرة الثانية أن النبي صلى الله عليه وسلم صار يخفت في قراءته اتباعا لنهي آية سورة الأعراف هذه وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ فشكى المسلمون من عدم سماعهم القرآن منه فأمر في هذه الفقرة بالتوسط بين الجهر وخفت الصوت. هذا مع التنبيه إلى أننا نرجح أن الآية الأولى نزلت مع الآية الثانية وأن الآيتين استمرار للسياق السابق، وكل ما في الأمر أن أولاهما تضمنت جوابا على ما كان يسأله أو يحتار فيه المسلمون، والله أعلم.