ولقد تكرر في السور السابقة حكاية مشاهد الجدل والحجاج حول القرآن، كما استمر في السور اللاحقة أيضا مما يدل على أن القرآن كان موضوع حجاج وأخذ ورد دائم بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار، ومما هو طبيعي لأنه أعظم وأقوى مظهر للنبوة والرسالة.
وهذا الجدل المستمر بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار حول القرآن وحكايته فيه يؤيد ما قلناه قبل من أن تعبير (القرآن) كان يطلق على ما كان ينزل منه قبل تمامه أولا، ومن أن الفصول المحكمة فيه التي احتوت أسس الدعوة أي وحدة الله والإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء الآخرين وباليوم الآخر والتزام مكارم الأخلاق والأعمال الصالحة وعبادة الله وحده واجتناب الآثام والفواحش والشرك هي التي كان يقصد بها هذا التعبير ويدور حولها الجدل وتنزل الفصول التدعيمية الأخرى من قصص وأمثال وترغيب وترهيب وتذكير وتنديد وتسفيه لدعمها ثانيا، ولما كان جميع ذلك وحيا ربانيا فقد شملته دفتا المصحف ودخل في نطاق تعبير كلام الله وقرآنه.
والمتمعن في الآيات يلمس صورة رائعة قوية تثير الإجلال والإعظام لصميمية الرسول صلى الله عليه وسلم في إبلاغه أمر الله القرآني ردا على طلب الكفار وإخلاصه وصدقه وعمق إيمانه بأنه إنما كان يبلغ وحي الله النازل عليه وباستشعاره خوفا عظيما تجاه أي احتمال في تبديل أو تعبير أو زيادة أو نقص فيما كان يوحى إليه في سياق إبلاغه وتفهيمه للناس.
وفيها ردّ قوي على من يزعم أن القرآن نابع من نفس النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي الآية الثانية صورة من صور نشأة النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وشيء من سيرته وخلقه حيث تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتذكير السامعين بما كان من أمره وحالته قبل نزول الوحي عليه، وبأنهم يعرفونه ويعرفون أنه لم يكن فضوليا ولا مفتريا ولا كذابا ولا مندفعا في أي أمر وحركة، ولا راغبا في البروز والظهور، ولا مترشحا للنبوة، ولا شاعرا ولا خطيبا ولا كاتبا ولا قارئا، وإن هذا لدليل على أنّ ما كان يبلغه ليس منه وإنما هو وحي الله وقرآنه.