بلغهم وعاد قومهم إلى اضطهادهم فهاجروا مرة أخرى، وانضمّ إليهم غيرهم حتى بلغ عددهم ثلاثة وثمانين رجلا وثماني عشرة امرأة معظمهم من قريش ومن أبناء المشركين المناوئين للدعوة أو أقاربهم حتى لم يكد بطن من بطون قريش وأسرها الكبيرة إلا وكان منها بعضهم نساء أو رجالا «١» ، وظلوا هناك إلى السنة الهجرية السادسة حيث صار النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في منعة وقوة في المدينة فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم من أحضرهم إليها. وقد أوّل المؤولون ومنهم الشعبي جملة لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً بما كان من عودتهم إلى المدينة ونزولهم فيها المنزل الحسن وهذا صواب. وبه تحققت معجزة قرآنية بما كان من صدق وعد الله تعالى لهم والله لا يخلف الميعاد.
وفي الآية مع ذلك تلقين مستمر المدى لكل من ظلم فهاجر من ظلمه حيث تمده بمدد روحاني في اليقين بأن الله عز وجل ناصره ومبوّئه المبوّأ الحسن في الدنيا بالإضافة إلى الأجر الأخروي الأكبر جزاء صبره وتوكله على الله تعالى.
ولقد كان من المؤمنين كثير من الفقراء والمساكين والأرقاء وأهل الكتاب من قاطني مكة، فرواية كون معظم المهاجرين إلى الحبشة من الأسر القرشية ومنهم من أبناء كبار الزعماء وأقاربهم تدل على أن نقمة هؤلاء الزعماء واضطهادهم كانت أشدّ على أبنائهم وأقاربهم وأبناء الأسر القرشية في الدرجة الأولى خشية أن تسري عدواهم إلى غيرهم من أبناء هذه الأسر في الدرجة الأولى وفي هذا ما فيه من صور السيرة النبوية في العهد المكي.
ولقد حاول بعض المستشرقين أن يغمزوا المهاجرين في صبرهم وجلدهم ويعزوا هجرتهم إلى الرغبة في النجاة بأنفسهم ولو كان في ذلك تخلّ عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي هذا تجنّ آت من سوء النية والجهل بظروف البيئة النبوية فالذين هاجروا كانوا بين أمرين إما أن يتعرضوا لأذى شديد قد تخونهم فيه أعصابهم