هذا، والمتبادر لنا أن الآية الأولى ليست بسبيل تزهيد الناس في متع الحياة وطيباتها وزينتها إطلاقا وكل ما في الأمر أنها تقرر أن الميل إلى ذلك مما طبع الله الناس عليه. وآية سورة الأعراف [٣٢] التي تستنكر تحريم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق وآيات سورة المائدة [٨٦ و ٨٧] والتي تنهى المؤمنين عن تحريم ما أحلّه الله لهم من الطيبات يمكن أن تورد كدليل قرآني على ما نقول.
وإنما هي بسبيل التشويق إلى نعيم الآخرة بالتحقق بصفات المتقين الممدوحة إزاء ذكر طبيعة الإنسان بالميل إلى المتع المشتهاة واستهدافا والله أعلم لتطوير هذه الطبيعة إلى ما هو خير وأبقى وتهذيبها حتى لا تطغى على الإنسان فتجعله يستغرق فيها استغراقا ينسيه واجباته نحو الله والناس على ما شرحناه في سياق آية سورة الأعراف وفي مناسبات مماثلة في سور أخرى سبق تفسيرها. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات حديثين وصفهما بالصحة جاء في أحدهما «أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال حبّب إليّ النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة» وجاء في ثانيهما: «أنّ عائشة قالت لم يكن شيء أحبّ إلى رسول الله من النساء إلّا الخيل وفي رواية من الخيل إلّا النساء» . ويمكن أن يورد هذان الحديثان كدليل نبوي على أنه ليس هناك مانع من كتاب وسنّة يمنع الإنسان من أن يحبّ النساء والخيل والطيب وطيبات الحياة الأخرى إذا كانت حلالا لا فاحشة فيها ولا معصية مع القصد والاعتدال اللذين هما من التنبيهات القرآنية المتكررة. والصفات التي نوّهت بها الآيات الثلاث الأخيرة جامعة لأحسن صفات المؤمن الصالح. وما يجب أن يتخلّق به من أخلاق دينية وشخصية واجتماعية. وتكاد تكون خلاصة موجزة لأهداف الدعوة الإسلامية وصورة مثالية للمسلم. وقد انطوى فيها بالبداهة الدعوة إلى الاتصاف بها والحثّ عليها.
ولقد أورد ابن كثير أحاديث عديدة في سياق هذه الآيات فيها حثّ على الاستغفار وبخاصة في الأسحار وصورة لاجتهاد النبي وأصحابه في ذلك، ولقد علقنا على ذلك وأوردنا طائفة من الأحاديث في سياق تفسير آيات سورة المزمل [١- ٨ و ٢٠] والإسراء [٧٨] والذاريات [١٦- ١٨] فنكتفي بهذا التنبيه.