ويتبادر لنا في صدد الحديثين الصحيحين أن ما ذكر فيهما من أحداث قد وقعت بعد نزول الآيات وأن الآية الثالثة تليت للاستشهاد بها فالتبس الأمر على الرواة والله تعالى أعلم.
ولقد قال الخازن بلفظ (قيل) إن المقصود من الفئة الأولى هم النصارى ومن الفئة الثانية هم اليهود. وهو قول وجيه تطمئن به النفس وتكون الآيات بذلك قد احتوت وهي مستمرة على التنديد باليهود مقايسة بينهم وبين النصارى لتقوية التنديد. على أن هذا إذا لم يصح وكانت الفئتان من اليهود فإن أسلوب بقية الآية الأولى ومضمونها يلهمان أن الفئة الأولى هي الأقلية والأخرى هي الأكثرية من اليهود. ويظل التنديد بذلك قويا وشاملا لأكثرية اليهود كما هو المتبادر.
ولقد احتوت الآية تكذيبا لقول اليهود إنه لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ أي إن شريعتنا لا ترتب علينا أي ذنب ومسؤولية مهما فعلنا مع الأمم الأخرى بما في ذلك خيانتهم وأكل أموالهم، وتقريرا بأنهم يعلمون أنهم كاذبون. ولقد احتوت أسفارهم وصايا عديدة بالغريب الساكن بينهم وعدم ظلمه ومضايقته وهضم أمواله وحقوقه بل وفيها وصية بمساعدة أعدائهم ومعاونتهم في المواقف التي يكونون فيها في حاجة إلى ذلك «١» وبذلك استحكمتهم حجة القرآن ودمغهم بتكذيبهم في هذه المسألة.
ومع خصوصية الآيات فإن فيها تلقينات جليلة متسقة مع المبادئ القرآنية العامة ومستمرة المدى سواء أفي الحث على الأمانة والتنويه بالأمناء أم في التنديد
(١) انظر الإصحاحات (٢٢ و ٢٣) من سفر الخروج و (١٩) من سفر الأحبار و (١٠ و ٢٤) من سفر تثنية الاشتراع. وهذا ما يجعلنا نعتقد أن ما جاء في بعض أسفارهم من نسبة تحريضهم على سكان أرض كنعان وإبادتهم أو استعبادهم والاستيلاء على ديارهم وأموالهم بدون سابق عداء إلى الله هو تحريف متأخر من اليهود لتبرير ما اقترفوه من جرائم وحشية عظمى تنزه الله عن أن يكون قد أمر بها. اقرأ كتابنا تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم وبخاصة فصل خروج بني إسرائيل من مصر وحلولهم في شرق الأردن وفلسطين ص ٤١- ٨١.