يمنحه البيت من أمن لمن دخله أو كان فيه بصورة عامة وكون ذلك متصلا بتقاليد ما قبل الإسلام فامتد إلى الإسلام على ما ذكرناه في تعليقنا في سورة قريش فإن هناك اختلافا بين المؤولين والفقهاء في صدد تطبيقه على من يرتكب جريمة في الإسلام تستوجب إقامة الحدّ الشرعي حيث قال بعضهم إن من لجأ إلى بيت الله وقد ارتكب مثل تلك الجريمة يكون آمنا. وروي عن ابن عباس وغيره رواية تفيد عدم تنفيذ القصاص عليه فيه وانتظاره إلى أن يخرج منه. وقد أخذ بهذا الإمامان أبو حنيفة وابن حنبل على ما ذكره المفسر القاسمي الذي ذكر أيضا أن الإمامين الشافعي ومالك يذهبان إلى جواز تنفيذ القصاص وقال إن أصحاب هذا الرأي يستدلون على ذلك بحديث رواه البخاري عن أنس بن مالك جاء فيه:«إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاء رجل فقال إن ابن الأخطل متعلق بأستار الكعبة فقال اقتلوه» . وكان من أشدّ أعداء رسول الله ومؤذيه.
ثم بحديث رواه الخمسة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه:«خمس فواسق يقتلن في الحلّ والحرم الحيّة والعقرب والغراب الأبقع والطارد والكلب العقور» .
وقالوا إن علة تحليل قتل هذه الفواسق هو ضررها وإن هذا يقاس عليه الفاسق من الناس. وقد أورد القاسمي حديثا عن النبي لم يذكر راويه جاء فيه:«إنّ الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارّا بدم ولا فارّا بخربة»«١» كدليل نبوي آخر. ويظهر أن الحديث لم يصح عند أصحاب القول الأول لأنه لو صحّ لكان فيه القول الفصل.
ومع ذلك، فالذي يتبادر لنا أن حكمة الله في منح الأمان لمن دخل الحرم وحكمة رسوله في الأحاديث المتساوقة مع القرآن والتي أوردناها في تعليقنا في سورة قريش تبدو واضحة أكثر إذا أوّلت بأنها منع عدوان أحد على دم أحد وماله في الحرم بحيث يكون من دخله آمنا عليهما. وأن مذهب الإمامين الشافعي ومالك هو الأوجه لأن فيه منعا لإساءة استعمال هذه المنحة الربانية من قبل المجرمين.
والله تعالى أعلم.
(١) فسّر المفسر كلمة (بخربة) بسرقة يستحق عليها الحدّ الشرعي وهو قطع اليد.