أحرم وأمر المسلمين بالإحرام وأشعر الهدي (جرحه ليسيل دمه وهذا علامة على أنه هدي لله) ووضع في أعناقه القلائد. (وهي علامة ثانية على ذلك) . وكانت أخبار مسيره قد وصلت إلى قريش. فهاجوا وثارت نفوسهم. وتعاهدوا على منعه وأخذوا يستعدون للحرب حتى لقد أرسلوا كتيبة فرسانهم بقيادة خالد بن الوليد بسبيل ذلك. وجاء زعيم خزاعة إلى النبي وكان له نصوحا فقال له إن قريشا جمعوا لك جموعا وجمعوا الأحابيش. وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت. فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فأشاروا عليه بالمضي إلى قصده الذي ألهمه الله به فإذا صدتهم قريش قاتلوهم إلى أن يحكم الله بينهم. ثم تقدم وتقدموا حتى إذا وصلوا إلى الحديبية وهي قرية أو بئر على نحو مرحلة من مكة بركت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم فألهم بوجوب التوقف في المكان فتوقف وقال:«والذي نفسي بيده لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة فيها تعظيم حرمات الله وفيها صلة رحم إلّا أعطيتهم إياها» . وقد أرسل النبي رئيس خزاعة إلى قريش يخبرهم أنه إنما جاء معتمرا ولم يجىء مقاتلا ويدعوهم إلى المهادنة والسماح له بالزيارة والتخلية بينه وبين العرب فإن هلك كفوا مؤونته وإن أظهره الله كانوا بالخيار إن أرادوا دخلوا فيما دخل فيه الناس.
وينذرهم إذا أمعنوا في العناد والبغي أنه سوف يقاتلهم حتى تنفرد سالفته (أي حتى يطيح رأسه عن عنقه) ولينفذن الله أمره. فذهب الرجل وأبلغ الرسالة. وكان عروة بن مسعود الزعيم الثقفي حاضرا فنصحهم بقبول ما اقترحه وطلب منهم أن يأذنوا له ليأتي محمدا صلى الله عليه وسلم ويكلمه فأذنوا فجاء فكلمه فقال له ما قال للزعيم الخزاعي. فقال له: أي محمد أرأيت إن استأصلت قومك هل سمعت بأحد من العرب فعل ذلك قبلك؟ وإن تكن الأخرى فو الله إني لأرى وجوها وأرى أوشابا من الناس خلقاء أن يفروا ويدعوك، فصرخ به أبو بكر: امصص بظر اللات أنحن نفرّ عنه وندعه. فعاد عروة فقال لقريش أي قوم والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي. والله ما رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا إذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيما له.