على أن هذا لا يمنع أن يكون جماعة من اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم السؤال المروي في الآية وأن يكون بدر منهم سوء أدب وبذاءة لسان في الدين الإسلامي كما بدر منهم ذلك إزاء أذان المسلمين وصلاتهم قبل نزول هذه الآيات وما قبلها فأشير إلى ذلك في معرض الكلام عن مواقفهم وواقعهم. ولقد تكررت حكاية مثل ذلك في آيات عديدة في السور السابقة «١» مما يدل على تكرر حدوثه منهم.
وفي الآيتين دلالة قاطعة على أن المقصود المباشر من أهل الكتاب هم اليهود. فهم الذين تكررت الإشارة القرآنية إلى أنهم هم الذين لعنهم الله وغضب عليهم ومسخهم قردة وخنازير وإلى أنهم انحرفوا عن التوحيد إلى عبادة العجل وآمنوا بالجبت والطاغوت. وهذا قد يؤيد ما قلناه قبل من أن ذكر النصارى في السياق السابق كان على سبيل الاستطراد وأن اليهود هم أصحاب الموقف الفعلي الذي نزل بسببه النهي والتحذير.
والآية الأولى قوية في أسلوبها الإنكاري والحجاجي والإفحامي على ما هو ظاهر. كما أن الآية الثانية قوية في أسلوبها التقريعي. وهذا وذاك يدلان على ما كان لموقف اليهود من إثارة واستفزاز وما كان فيه من قحة وسوء أدب اقتضت حكمة التنزيل مقابلتهم عليه بما يستحقون وبما هو من واقع تاريخهم وأخلاقهم.
وواضح أن الآيتين تدلان فيما تدلان عليه على أن اليهود كانوا مغيظين محنقين من ظهور النبي صلى الله عليه وسلم وظهور دعوته وانتشار دينه واشتداد قوته وبخاصة مما في ذلك من قطع الطريق عليهم وإحباط زهوهم وحجتهم وإيقافهم في موقف المتناقض المكابر لأنها تأمر بالإيمان بالله وحده وبما أنزله على الرسل السابقين.
ومما في ذلك من زعزعة لمركزهم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والديني الذي كان لهم عند العرب وكانوا يجنون بسببه كثيرا من الثمرات المادية والأدبية. وفي
(١) اقرأ تفسير آيات سورة آل عمران [٧٢- ٧٣] وسورة النساء [٤٦- ٥٣] .