والمتبادر أن الآيتين قد احتوتا ردا على شكوى اليهود من الضيق بعد السعة والعسر بعد اليسر التي عبروا عنها بتلك الكلمة البذيئة في حق الله التي حكتها عنهم الآية [٦٤] . فما وقع هو ناشىء عن انحرافهم واعوجاجهم. وليس بسبب النبي صلى الله عليه وسلم كما زعموا ولو أنهم آمنوا كما آمن الناس وأقاموا أحكام كتب الله لا تسع عليهم الرزق ودرّت عليهم الخيرات فضلا عما ينالونه من غفران الله لسيئاتهم وحسن جزائه الأخروي.
ومن المؤولين من صرف جملة وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ إلى القرآن ومنهم من صرفها إلى كتب الله السابقة. والقول الأول معزوّ إلى ابن عباس. ونحن نراه الأوجه لأن ما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو منزل إلى الناس جميعا وأهل الكتاب من الجملة. ويعضد هذا الآية الأولى من الآيتين التي تقرر بأنهم لو آمنوا لكفّر الله عنهم سيئاتهم حيث إن المقصود إيمانهم برسالة النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن ويعضده ذكر التوراة والإنجيل قبل الجملة، وتعضده أيضا الآيتان [١٥، ١٦] من هذه السورة حيث خوطب فيهما أهل الكتاب بأنه قد جاءهم من الله نور وكتاب مبين. وبهذا يزول ما يرد من إشكال في لوم أهل الكتاب على عدم إقامتهم التوراة والإنجيل وإيذانهم بأنهم لو أقاموا لحسنت حالتهم. فالمطلوب منهم أو الواجب عليهم أن يقيموهما ويقيموا في الوقت نفسه أحكام ما أنزل إليهم بواسطة النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو القرآن.
وقد يرد إشكال آخر. فما دام أن الدعوة الإسلامية موجهة إليهم. وفي حال إيمانهم بها تكون الشريعة الإسلامية التي تقوم على القرآن والسنة النبوية القولية والفعلية هي شريعتهم فكيف يؤمرون والحالة هذه بإقامة التوراة والإنجيل؟ وجوابا على هذا نقول إن الآية قد جاءت في معرض التنديد لتقول لأهل الكتاب إن ما أصابهم من ضيق وعسر إنما أصابهم لأنهم أيضا لم يقيموا أحكام كتبهم ويتبعوا وصاياها ومن جملة ذلك الإيمان برسالة النبي الأمي الواردة صفته في التوراة والإنجيل على ما شرحناه في سياق آية سورة الأعراف [١٥٧] التي تذكر ذلك.