والقول الأول فيما يتبادر لنا هو الأوجه المتسق مع روح الآية ومقام ورودها. وفيها كما قلنا تسلية لجميع المسلمين عن ضلال غيرهم من جهة وحثّ على وجوب تمسكهم بهدى الله ورسوله وعدم الانحراف عنه من جهة، وتوطيد لحرية الدين فيما يتبادر لنا من جهة، وتوكيد لما استلهمناه من آيات كثيرة سابقة ونبهنا عليه من أن المسلمين غير مكلفين بمحاربة من لم يسلم من أهل الملل الأخرى بسبب عدم إسلامه فقط.
ولا يعني هذا رفع واجب الدعوة عن المسلمين إلى الإسلام. فالدعوة واجب مستمر الوجوب على المسلمين في كل ظرف ومكان. سواء في ذلك أفرادهم وهيئاتهم وحكوماتهم في النطاق القرآني وهو ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: ١٢٥] . فوعد الله عز وجل بإظهار دينهم على الدين كلّه إنما يتحقق بذلك. وهذا فضلا عما في القرآن والسنّة من نصوص صريحة في هذا من حيث إن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم هي عامة شاملة. وقد أمر بإبلاغها وصار ذلك واجب المسلمين من بعده. على أن هذا القول لا يتعارض مع القول الثاني أيضا ولا يضعف وجاهته. ولا سيما أن هناك أحاديث نبوية وصحابية يوردها رواة الحديث ومفسرو القرآن في سياق الآية، بل فيها ما هو صريح بأنه ذو علاقة بها. منها حديثان رواهما الترمذي وأبو داود: أحدهما عن أبي بكر قال «إنكم تقرءون هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنّ الناس إذا رأوا ظالما فلم يأخذوا على يديه أو شك أن يعمّهم الله بعقاب»«١» . وثانيهما عن أبي أمية الشعباني قال «سألت أبا ثعلبة عن يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ... الآية فقال: أما والله لقد سألت عنها خبيرا، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحّا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه
(١) التاج ج ٤ ص ٩٥ وفي رواية الطبري أنّ أبا بكر قال «والله ما أنزل الله في كتابه أشدّ منها» .