أحبّ إليه من كل عرض دنيوي وصلة رحمية مهما عظمت في نفسه أو عظمت فيها مصلحته الشخصية. وهكذا تكون الآيات قد وضعت قياسا لإيمان المسلم وإخلاصه. وهو قياس دقيق شديد بل قياس خالد لإيمان المؤمنين وإخلاصهم لعقائدهم ومبادئهم في كلّ ظرف ومكان. وإذا لوحظ أن الآية شملت كل ما يمكن أن يكون للمرء فيه مصلحة خاصة ومحببة وصلة وشيجة من آباء وأبناء وإخوان وأزواج وعشيرة وأموال وتجارة ووطن خاص بدا مدى هذا المقياس الرقيق الشديد الخالد. وسبيل الله التي تجعل الآيات الجهاد فيها من أركان هذا القياس هي الدعوة الإسلامية وما ينطوي فيها من أوامر ونواه ومبادئ وأهداف دنيوية وأخروية بصورة عامة على ما شرحناه في مناسبات سابقة حيث يبدو من خلال ذلك شمول هذا القياس الدقيق. وينطوي في الآيات بالإضافة إلى ذلك هدف توطيد الكيان الإسلامي وتضامن المسلمين في نطاقه بقطع النظر عن أي اعتبار وصلة خارجة عنه.
ومن الجدير بالذكر أن القرآن المكي وصّى الإنسان والمسلم بوالديه حسنا على أن لا يطيعهما في الشرك وأن يصاحبهما في الدنيا معروفا. كما جاء في آيات سورة الإسراء [٢٣- ٢٤] وسورة لقمان [١٣- ١٤] وسورة العنكبوت [٨] ثم تطور هذا في الآية [٢٢] من سورة المجادلة حيث قررت أنه لا يمكن لمؤمن صادق أن يوادّ من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم. ثم جاءت الآيات التي نحن في صدد تفسيرها تطورا آخر حاسما بنهيها صراحة عن اتخاذ الآباء والأبناء وغيرهم من ذوي الأرحام أولياء ونصراء إذا ظلوا كفارا. والفرق التطوري يلمح في كون الوصف في آية المجادلة هو مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وهذا يعني العداء في حين أن الوصف في الآيات التي نحن في صددها هو إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وهذا لا يعني العداء دائما. وحكمة التطور تلمح في تطور حالة المسلمين والإسلام وقوتهما واشتداد أمرهما كما هو المتبادر. وفي ذلك كلّه صور من صور السيرة النبوية.