يسوغ ترجيح نزولهما معه أو عقبه وأن تكونا قد جاءتا على سبيل التعقيب على السياق من جهة وخاتمة للسلسلة التي استدللنا من مضامينها أنها نزلت أثناء غزوة تبوك من جهة أخرى والتي دار أساسها وفصولها على التنديد بالمتخلفين عن الجهاد بأموالهم وأنفسهم أولا وبالمخامرين المنافقين ثانيا، والتنويه بالمؤمنين المخلصين الذين يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ثالثا.
ولقد جاءت الآيتان بأسلوب قوي نافذ. وجمعت الثانية منهما بخاصة كل صفات المؤمن المخلص فكانتا ختاما رائعا لهذه السلسلة وللغزوة التي نزلت فيها والتي كانت آخر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وأعظمها عددا وعدة ومن أبعدها خطورة وأشدها شقة وأطولها مسافة وأمدا. وقد تلهم روحهما أنهما في صدد التنويه بأصحاب رسول الله الذين اشتركوا في غزوة تبوك أيضا.
ومع ذلك فإن إطلاق عبارتهما يجعلهما تقريرا عاما موجها إلى كل مسلم في كل ظرف ومكان ليستمد منهما إلهاما فياضا في الإقدام على الجهاد بماله ونفسه وتحمل التضحيات مهما عظمت في سبيل الله ويجد فيهما مقياسا للإخلاص الذي يستحق المتحقق به لرضاء الله ويجد فيهما جماع صفات الصلاح وأسباب الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة التي يجب عليه أن يتحقق بها.
ويلفت النظر بخاصة إلى ما في الآية الأولى من مغزى عظيم. حيث تتضمن تقرير أن المسلم المخلص بمجرد انتسابه للإسلام يكون قد باع نفسه لله ليجاهد في سبيله بماله ونفسه وكون الله قد اشترى ذلك بالجنة. ففي هذا ما فيه من قوة الحثّ على الجهاد والدعوة إليه. وقوة عنصر الاستجابة فيه واعتباره أقوى أركان الإسلام ودعائمه. وطبيعي أن هذا الجهاد يدور في نطاق المبادئ التي قررها القرآن وشرحناها في مناسبات عديدة سابقة.
ولقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر حديثا جاء فيه «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رجع من سفر يقول آئبون تائبون إن شاء الله عابدون لربنا حامدون»«١» .
(١) النص من ابن كثير جاء في سياق تفسير آيات الزخرف [١٢- ١٤] وقال المفسّر إن الحديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي.