تمنعهم من الإيمان والتصديق تارة كالاستكبار والتعاظم والاعتداد بالمال والجاه والعصبية، وخشية فقدان المنافع والمصالح وعدوان الخارج وقطيعة الناس وانفضاض الجمهور عنهم إلخ. ثم ظل النبي بتأييد الله ووحيه وقوته وتثبيته لا يزداد إلا استغراقا في مهمته وفناء في ربّه واستمرارا في الدعوة إليه وإشفاقا على قومه لينقذهم ثم لينقذ البشر جميعا من الضلال ويخرجهم من الظلمات إلى النور، إلى أن يسّر الله أمر الهجرة إلى المدينة المنورة وأيد نبيه بنصره وحقق له وعده فنصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب، وأهلك أكثر الزعماء الأقوياء المستكبرين الصادين الذين قادوا حملة المعارضة وتولوا كبرها، ودخل الناس في دين الله أفواجا وصارت كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى. فالقرآن يمثل فيما يمثل هذه القوة الروحانية العظمى التي كانت وما زالت الحاسمة في الموقف والمثيرة للإعجاب والإعظام والإجلال.
ومن الجدير بالذكر أن كل ما يمكن أن يقوله كافر جاحد عنيد شديد العداء عن القرآن والنبي قد قاله كفار العرب في حضرته مباشرة، وبكل عناد وقوة ولجاجة، وإن النبي قد ردّ عليه بلسان القرآن بكل قوة وعنف وقطعية وإفحام وصمد له صمودا رائعا عظيما. وكان ذلك على مرأى ومسمع من مختلف الفئات ثم استمر في تبليغ الدعوة إلى الله ومكارم الأخلاق وأسباب سعادة الدارين، وفي كل هذا دليل قوي أخاذ على ما كان من عمق شعوره عليه السلام بصدق رسالته وصدق صلته بالوحي الرباني وإدراكه التام لمدى مهمته العظمى واستغراقه فيها.
وإن المرء ليشعر بها شعورا يملك عليه نفسه إذا كان حسن النية متجردا عن الهوى إذ يقرأ في القرآن آيات النساء [١٦٧] والأنعام [٩٣] والشورى [٢٤] والأحقاف [٨] والحاقة [٣٨- ٥٢] التي نقلناها قبل ويقرأ منها آيات يونس هذه:
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا الجزء الأول من التفسير الحديث ٥