عند كبار الصحابة وقرائهم وحفاظهم بل وكل من شهد العمل منهم أنه القرآن الذي مات النبي عنه وهو ثابت لم ينسخ بترتيبه المعروف في حياته. وما دام النسخ الذي جرى في عهد عثمان إنما كان عن هذا المصحف وكان هذا أيضا على ملأ من الصحابة والقراء والحفاظ وبمعرفة علماء القرآن منهم، ولم يكن الباعث عليه إلا إيجاد إمام يضبط فيه الإملاء والقراءة ويجمع به الناس على رسم واحد، وما دامت المصاحف المتداولة في أيدي المسلمين هي طبق هذا المصحف الإمام كما هو ثابت بالتواتر الفعلي الذي لم ينقطع والذي هو يقيني- باستثناء بعض التنظيمات الشكلية على ما سوف نذكر بعد- فهي بطبيعة الحال طبق مصحف أبي بكر من حيث الألفاظ والآيات والسور وترتيبها، وبالتالي طبق ما مات النبي عنه من قرآن ثابت بترتيبه وتسلسله.
وإذا كان من المحتمل أن لا تكون إحدى نسخ مصاحف عثمان الأصلية موجودة اليوم- مع ما يقال عن وجود بعضها قولا غير مؤيد بشاهد ووصف عياني موثوقين- فإن هذا لا ينقض ما نقوله من التواتر الفعلي. ولقد ذكر علماء قديمون أنهم شاهدوا بعض هذه النسخ، وقرروا أن المصاحف المتداولة هي صورة تامة عنها رسما وترتيبا. ومن أقدم من ذكر ذلك أبو القاسم عبيد الله بن سلام من علماء القرن الهجري الثاني الموثوقين ومحدثيهم. وتقرير هذا العالم يهدم كل قول حول التشكيك في مصحف عثمان وكون المصحف المتداول هو صورة تامة صحيحة عنه، وحول رواية أن المصحف المتداول إنما هو مصحف الحجاج وجمعه وترتيبه إذا كان يراد بذلك جمعا وترتيبا جديدين، وأن الحجاج قد جمع المصاحف المتداولة ومصاحف عثمان وأبادها. ولعل الرواية محرفة عن حادثة عناية الحجاج بإعجام القرآن أو نقطه، مما صار نساخ المصاحف بعدها يأخذون به. فقد انتشر المسلمون في عهد الحجاج أكثر من ذي قبل في أنحاء الأرض، وانتشرت نسخ القرآن العثمانية كذلك، فلم يكن في إمكان الحجاج جمع المصاحف المتداولة وإبادتها البتة، ولم يقل أحد إنه رأى مصحفا للحجاج فيه تغاير ما مع المصحف العثماني في نصه وترتيبه، ولو كان وقع شيء من هذا لاهتمّ له أعداء الأمويين