وثانيا: إلى النهي عن الإسراف. وبيان كون الله عزّ وجلّ لا يحبّ المسرفين في سياق الأمر بالاستمتاع بزينة الله التي أخرجها لعباده والطيبات من الرزق والأكل والشرب حيث انطوى في ذلك حدّ فيه كل الحق والحكمة لمنع المسلم من تجاوزه والاستغراق في شهوات النفس والإسراف في الأكل والشرب والزينة ولو كان من الطيب الحلال. وينطوي في هذا فيما ينطوي فيه من الحكم الجليلة منع التفاوت العظيم في المعيشة بين مختلف الفئات مهما اختلفوا في حيازة الثروة والأسباب الميسّرة للاستمتاع بطيبات الحياة وزينتها. والحيلولة بذلك دون فوران أحقاد الطبقات المعسرة على الطبقات الموسرة. وتوجيه ما يمكن أن يتوفر من جرّاء الاعتدال وعدم الإسراف إلى الفئات المحرومة والمعسرة والمشاريع التي فيها برّ وخير ومنفعة للمسلمين. وحياطة المسلمين من صفة التبذير والسّفه. ولقد نعتت إحدى آيات سورة الإسراء المبذرين بأنهم إخوان الشياطين في سياق النهي عن الإسراف والأمر بالاعتدال.
وثالثا: إلى صيغة الحصر للمحرّمات في الآية الثالثة حيث يفيد أن الله تعالى إنما حرّم ما فيه انحراف عن وحدة الله وما فيه بغي وظلم وعدوان على الغير. وما فيه معصية لله تعالى بأي شكل ومدى وحالة. وسواء أكان ذلك من الفواحش الكبيرة أم من الذنوب العادية وسواء أكان ذلك في السرّ أم في العلن وظاهرا لا يمكن المماراة فيه أم باطنا يمكن التأوّل فيه ولكن مقترفه يعرف أنه معصية. وإن ما عدا ذلك هو مباح للمسلمين في نطاق التوجيه الذي تضمنته الآيتان الأولى والثانية من التزام الطيب الحلال وعدم الإسراف.
وفي كل ذلك ما فيه من شمول وتأديب وروعة وجلال ثم من مظهر حكمة ترشح الشريعة الإسلامية للشمول والخلود الذي انطوى في آية الفتح هذه: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [٢٨] لأن فيه إجماع ما فيه الخير والشر والصلاح والفساد في الدين والدنيا الذي يتسّق في كل ظرف ومكان مع المنطق والعقل والمصلحة الإنسانية.