للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقال: "كنت أقلب في أوراق والدي فرأيت عددين من جريدة العروة الوثقى فقرأتهما بشوق ولذة ففعلا في نفسي فعل السحر، وكان كل عدد منها كسلك من الكهرباء اتصل بى فأحدث في نفسي من الهزة والانفعال والحرارة والاشتعال ما قذف بي من طور إلى طور ومن حال إلى حال-ويصف الطورين والحالين فيقول- كان همي قبل ذلك محصورا في تصحيح عقائد المسلمين ونهيهم عن المحرمات وحثهم على الطاعات وتزهيدهم في الدنيا، فتعلقت نفسي بعد ذلك بوجوب رشاد المسلمين عامة إلى المدنية والمحافظة على ملكهم ومباراة الهمم العزيزة في العلوم والفنون والصناعات وجميع مقومات الحياة فطفقت استعد لذلك استعداداً" (١).

واشتهر حبه وتعلقه الشديد بالأفغاني ومحمد عبده حتى صار الثناء عليهما يعتبر تقربا إليه، وكتب الأفغاني وهو في الآستانة كتابا أبان له فيه ما يكنّه له من محبة وتأييد وسأله إن كان يقبله مريدا يتلقف الحكمة منه وتلميذا يقوم ببعض الخدمة.

كان الشيخ محمد عبده في الشام منفيا من مصر والتقى به السيد رشيد مرتين في طرابلس في مناسبتين قصيرتين كان نتيجتهما زيادة إعجاب السيد رشيد بالإمام ورغبته في الاتصال به، وبعد أن توفي الأفغاني سنة ١٣١٤ هـ، عزم الشيخ محمد رشيد على الرحيل إلى مصر للاتصال بوارث علمه وحكمته الأستاذ الإمام محمد عبده لتلقي الحكمة منه، ولازمه حتى توفي.

ثم بدأ يتحول تدريجيا بعد وفاة أستاذه محمد عبده، من منهج المدرسة العقلية الحديثة إلى منهج السلف، وهو وإن لم يتحول تحولا كاملا إلا أنه كان في ازدياد إلى أن أدركته الوفاة.

وتبدو مظاهر هذا التحول عن سيرة سلفه التي ساروا عليها فيما يلي:

أولا: من خلال منهجه في التفسير؛ فقد نص في تفسيره على أنه "خالف منهج أستاذه بالتوسع فيما يتعلق بالآية من السنة الصحيحة سواء كان تفسيرا لها أو في حكمها وفى تحقيق بعض المفردات والجمل اللغوية والمسائل الخلافية بين العلماء، وفى الإكثار من شواهد الآيات في السور المختلفة وفى بعض الاستطرادات لتحقيق مسائل تشتد حاجة المسلمين إلى تحقيقها بما يثبتهم بهداية دينهم في هذا العصر أو يقوي حجتهم على خصومهم من الكفار والمبتدعة أو يحل بعض المشكلات التي أعيا حلها بما يطمئن به القلب وتسكن إليه النفس" (٢).

وقال أيضا: " (وأقول) أنا مؤلف هذا التفسير: إنني ولله الحمد على طريقة السلف وهديهم، عليها أحيا وعليها أموت إن شاء الله -تعالى-، وإنما أذكر من كلام شيخنا، ومن كلام غيره، ومن تلقاء نفسي بعض التأويلات لما ثبت عندي باختباري الناس أن ما انتشر في الأمة من نظريات الفلاسفة ومذاهب المبتدعة المتقدمين والمتأخرين، جعل قبول مذهب السلف واعتقاده يتوقف في الغالب على تلقيه من الصغر بالبيان الصحيح وتخطئة ما يخالفه، أو طول ممارسة الرد عليهم، ولا نعرف في كتب علماء السنة أنفع في الجمع بين النقل والعقل من كتب شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم -رحمهما الله تعالى-، وإنني أقول عن نفسي: إنني لم يطمئن قلبي بمذهب السلف تفصيلا إلا بممارسة هذه الكتب.


(١) المرجع السابق.
(٢) تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) (١/ ١٦).

<<  <   >  >>