للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٦ - لم يكن رشيد رضا حاسماً منذ البداية في موقفه إزاء تفسير الآيات الكريمة المتعلقة بالله تعالى وصفاته، وأمور الغيب بشكل عام، حيث كان يتأرجح بين موقفي السلف والخلف، أي بين موقف التنزيه مع التفويض من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تأويل، وبين موقف التنزيه مع التأويل فيما يتعلق في تفسير هذه الآيات الكريمة، حتى حسم موقفه بوضوح إزاء هذه القضايا بسبب إقباله الكبير على قراءة كتب أئمة الفكر السلفي، وعلى رأسهم ابن تيمية، وتَبَنيه لموقفهم بشكل كامل، مع الاحتفاظ لنفسه بذكر بعض تأويلات محمد عبده، وعلماء الخلف، وتأويلات خاصة به أحياناً، بسبب اقتناعه بضرورة هذه التأويلات في إقناع أصحاب الثقافة المادية والفلسفية الذين لا يقبلون التسليم بأمور الغيب كما وردت النصوص بها دون تأويل يُزيل التعارض الظاهري بينها، وبين العقل (١)، فهو مؤمن إيماناً تاماً بمنهج السلف في تفسير آيات الغيب، إلا أنه قدّم بعض التنازلات، عن قناعةٍ وإدراكٍ منه لِما يفعل، في هذا المجال إرضاءً لنزعته الإصلاحية التي قضت عليه هنا بسرد بعض التأويلات من أجل أن يكسب أنصاراً جدداً للإسلام من بين قُرائه من ذوي الثقافة العصرية، ومن أبناء المؤسسات التعليمية الحديثة الذين بدؤوا يهيمنون على مقاليد الحياة السياسية الثقافية في عصره (٢).

٧ - لم يكن رشيد رضا يتحرَّج في مواضع كثيرة من مناقشة ونقد شيخه محمد عبده في بعض آرائه، وخاصة في الأمور والمسائل العقدية التي مال فيها عبده عن مذهب السلف (٣)، فهو لا يسلِّم له تسليماً مطلقاً، ولا يؤيِّد كلامه عندما يؤيده إلا بعد قناعةٍ منه، واتفاقٍ معه بالرأي، وليس عن طريق التقليد المحض الذي سبق أن ذمَّه كثيراً، وبهذا نعلم أن رشيد رضا كان يحتفظ بشخصيته العلمية المستقلة، حتى وهو ينقل كلام أستاذه، ومن باب أولى غيره من المفسرين (٤) (٥).


(١) يقول رشيد رضا: "وينبغي أن تعلم أيها القارئ المؤمن أنَّ من الخير لك أن تطمئن قلباً بمذهب السلف، ولا تحفل بغيره، فإن لم يطمئن قلبك إلا بتأويلٍ يرضاه أسلوب اللغة العربية، فلا حرج عليك، فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها .. والذي عليك قبل كل شيء أن توقن بأن كلام الله كله حق، وألا تؤول شيئاً منه بسوء قصد .. والتفسير الموافق للغة العرب لا يُسمى تأويلاً، وإنما يجب معه تنزيه الخالق، وعدم تشبيه عالم الغيب بعالم الشهادة من كل وجه". تفسير المنار، ١/ ٢٥٢ - ٢٥٣، وفي الحقيقة فقد ذكر رضا هذا الكلام في المجلد الأول من تفسيره الذي نشره بشكل مستقل بعد أن أضاف عليه إضافات كثيرة، عام ١٣٤٦ هـ/ ١٩٢٧ م، أي في المرحلة التي تشبَّع فيها رضا من الفكر السلفي، دون أن يتخلى في الوقت نفسه عن تمسكّه بمشروع محمد عبده الإصلاحي بشكل عام.
(٢) (قراءة في منهج رشيد رضا في تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) وموقف النقاد منه)، لحازم محي الدين.
(٣) انظر مناقشته لمحمد عبده في الفرق بين الذنب والسيئة، تفسير المنار، ٤/ ٣٠٢ - ٣٠٤، وانظر نقده له في مسألة "الغُلو"، وانتصاره لمذهب السلف في تقرير هذه المسألة، تفسير المنار، ١/ ٣٩٥، وانظر أيضاً ٢/ ١٣٩.
(٤) (قراءة في منهج رشيد رضا في تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) وموقف النقاد منه)، لحازم محي الدين.
(٥) انظر على سبيل المثال نقده لفخر الدين الرازي، تفسير المنار، ١/ ٦٨، ٤/ ٦١ - ٦٣، ونقده لشهاب الدين الآلوسي (ت ١٨٥٤ م) صاحب تفسير "روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني "، ١/ ٩١ - ٩٤.

<<  <   >  >>