أَيْضًا فَكَانَ إنْشَاءً، وَالْإِنْشَاءُ فِي الْمَاضِي إنْشَاءٌ فِي الْحَالِ فَيَقَعُ السَّاعَةَ وَعَلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ حَكَمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا فِي مَسْأَلَةِ الدَّوْرِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ بِالْوُقُوعِ وَهِيَ إنْ طَلَّقْتُك فَأَنْت طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا وَحَكَمَ أَكْثَرُهُمْ بِأَنَّهَا لَا تَطْلُقُ بِتَنْجِيزِ طَلَاقِهَا لِأَنَّهُ لَوْ تَنَجَّزَ وَقَعَ الْمُعَلَّقُ قَبْلَهُ ثَلَاثًا وَوُقُوعُ الثَّلَاثِ سَابِقًا عَلَى التَّنْجِيزِ يَمْنَعُ الْمُنَجَّزَ بِوُقُوعِ الْمُنَجَّزِ وَالْمُعَلَّقِ لِأَنَّ الْإِيقَاعَ فِي الْمَاضِي إيقَاعٌ فِي الْحَالِ وَنَقُولُ أَيْضًا إنَّ هَذَا تَغْيِيرٌ لِحُكْمِ اللُّغَةِ لِأَنَّ الْأَجْزِئَةَ تَنْزِلُ بَعْدَ الشَّرْطِ أَوْ مَعَهُ لَا قَبْلَهُ وَلِحُكْمِ الْعَقْلِ أَيْضًا.
لِأَنَّ مَدْخُولَ أَدَاةِ الشَّرْطِ سَبَبٌ، وَالْجَزَاءُ مُسَبَّبٌ عَنْهُ وَلَا يُعْقَلُ تَقَدُّمُ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ فَكَانَ قَوْلُهُ: قَبْلَهُ لَغْوًا أَلْبَتَّةَ فَيَبْقَى الطَّلَاقُ جَزَاءً لِلشَّرْطِ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِالْقَبْلِيَّةِ وَلِحُكْمِ الشَّرْعِ لِأَنَّ النُّصُوصَ نَاطِقَةٌ بِشَرْعِيَّةِ الطَّلَاقِ وَهَذَا يُؤَدِّي إلَى رَفْعِهَا فَيَتَفَرَّعُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ: وُقُوعُ ثَلَاثِ الْوَاحِدَةُ الْمُنَجَّزَةِ وَثِنْتَانِ مِنْ الْمُعَلَّقَةِ وَلَوْ طَلَّقَهَا ثِنْتَيْنِ وَقَعَتَا وَوَاحِدَةً مِنْ الْمُعَلَّقَةِ أَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا يَقَعْنَ فَيَنْزِلُ الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ لَا يُصَادِفُ أَهْلِيَّةً فَيَلْغُو وَلَوْ كَانَ قَالَ إنْ طَلَّقْتُك فَأَنْت طَالِقٌ قَبْلَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً وَقَعَتْ ثِنْتَانِ الْمُنَجَّزَةُ، وَالْمُعَلَّقَةُ وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ كَذَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَنْتَقِضُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: ٥٣] فَإِنَّ الْأَوَّلَ اسْتِقْرَارُ النِّعْمَةِ بِالْمُخَاطَبِينَ، وَالثَّانِيَ كَوْنُهَا مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَيْسَ الْأَوَّلُ سَبَبًا لِلثَّانِي بَلْ الْأَوَّلُ فَرْعٌ لِلثَّانِي وَقَالَ الرَّضِيُّ لَا يَلْزَمُ مَعَ الْفَاءِ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ سَبَبًا لِلثَّانِي بَلْ اللَّازِمُ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَ الْفَاءِ لَازِمًا لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا كَمَا فِي جَمِيعِ صُوَرِ الشَّرْطِ، وَالْجَزَاءُ فَفِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: ٥٣] كَوْنُ النِّعْمَةِ مِنْهُ لَازِمُ حُصُولِهَا مَعْنًى وَلَا يَغُرَّنك قَوْلُ بَعْضِهِمْ إنَّ الشَّرْطَ سَبَبٌ فِي الْجَزَاءِ اهـ.
وَتَمَامُهُ فِي شَرْحِ الْمُغْنِي لِلدَّمَامِينِيِّ مِنْ بَحْثٍ مَا مِنْ الْمَبْحَثِ الْأَوَّلِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَلْغُو قَوْلُهُ: قَبْلَهُ لِعَدَمِ الْمُنَافَاةِ وَلَا يَضُرُّ رَفْعُ شَرْعِيَّةِ الطَّلَاقِ عَلَى وَاحِدٍ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ ذَلِكَ فَأَلْزَمَ نَفْسَهُ بِهِ كَمَا لَوْ قَالَ: كُلَّمَا تَزَوَّجْت امْرَأَةً فَهِيَ طَالِقٌ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ عِنْدَنَا، وَإِنْ كَانَ فِيهِ سَدُّ بَابِ النِّكَاحِ الْمَشْرُوعِ، وَفِي الْقُنْيَةِ مِنْ آخِرِ كِتَابِ الْأَيْمَانِ قَالَ لَهَا كُلَّمَا وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقِي وَأَنْتِ قَبْلَهُ طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ طَلَّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثًا يَقَعْنَ وَهَذَا طَلَاقُ الدَّوْرُ وَإِنَّهُ لَا يَقَعُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي وَجِيزِهِ إذَا قَالَ: إنْ طَلَّقْتُك فَأَنْت طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا يُحْسَمُ بَابُ الطَّلَاقِ عَلَى أَظْهَرْ الْوَجْهَيْنِ
ــ
[منحة الخالق]
(قَوْلُهُ: بِالْوُقُوعِ) أَيْ وُقُوعِ الثَّلَاثِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى التَّفْرِيعِ وَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِهِ أَيْضًا فِي كَلَامِهِ وَسَنَذْكُرُ عَنْ ابْنِ حَجَرٍ الْخِلَافَ فِي وُقُوعِ الْمُنَجَّزِ وَحْدَهُ وَوُقُوعِ الثَّلَاثِ (قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْإِيقَاعَ فِي الْمَاضِي إيقَاعٌ فِي الْحَالِ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِالْوُقُوعِ وَقَوْلُهُ: وَنَقُولُ أَيْضًا إلَخْ تَأْيِيدٌ لَهُ فَأَخَّرَ تَعْلِيلَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ إلَى مَا بَعْدَ الْقَوْلَيْنِ لِيَرْتَبِطَ الْكَلَامُ.
(قَوْلُهُ: وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَنْتَقِضُ. . . إلَخْ) مُنِعَ لِقَوْلِهِ وَلِحُكْمِ الْعَقْلِ، وَقَوْلُهُ: بَعْدَهُ وَلَا يَضُرُّ رَفْعُ شَرْعِيَّةِ الطَّلَاقِ. . . إلَخْ مُنِعَ لِقَوْلِهِ وَلِحُكْمِ الشَّرْعِ قَالَ فِي النَّهْرِ: بَعْدَ ذِكْرِهِ لِحَاصِلِ كَلَامِ الْمُؤَلِّفِ، وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ مَا قَالَهُ الرَّضِيُّ إنَّمَا هُوَ مَذْهَبُ النُّحَاةِ يُفْصِحُ عَنْ ذَلِكَ مَا فِي الْمُطَوَّلِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الشَّرْطَ النَّحْوِيَّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الشَّيْءِ بَلْ هُوَ الْمَذْكُورُ بَعْدَ إنَّ وَأَخَوَاتِهِ مُعَلَّقٌ عَلَيْهِ حُصُولُ مَضْمُونِ الْجَزَاءِ أَيْ حُكِمَ بِأَنَّهُ يَحْصُلُ مَضْمُونُ تِلْكَ الْجُمْلَةِ عِنْدَ حُصُولِهِ فَهُوَ فِي الْغَالِبِ مَلْزُومٌ، وَالْجَزَاءُ لَازِمٌ وَانْتِفَاءُ اللَّازِمِ يُوجِبُ انْتِفَاءَ الْمَلْزُومِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ ثُمَّ قَالَ: الشَّرْطُ عِنْدَهُمْ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا نَحْوُ لَوْ كَانَتْ الشَّمْسُ طَالِعَةً فَالْعَالَمُ مُضِيءٌ أَوْ شَرْطًا نَحْوُ لَوْ كَانَ لِي مَالٌ لَحَجَجْت أَوْ غَيْرَهُمَا نَحْوُ لَوْ كَانَ النَّهَارُ مَوْجُودًا لَكَانَتْ الشَّمْسُ طَالِعَةً الثَّانِي سَلَّمْنَا أَنَّ أَدَاةَ الشَّرْطِ لَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لَكِنَّ بُطْلَانَ تَقَدُّمِ الشَّيْءِ عَلَى شَرْطِهِ ضَرُورِيٌّ لِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ فَلَا يَحْصُلُ قَبْلَهُ كَمَا فِي التَّلْوِيحِ، وَفِيهِ الْحَقُّ أَنَّ بُطْلَانَ تَقَدُّمِ الشَّيْءِ عَلَى شَرْطِهِ أَظْهَرُ مِنْ بُطْلَانِ تَقَدُّمِهِ عَلَى السَّبَبِ لِجَوَازِ أَنْ يَثْبُتَ بِأَسْبَابٍ شَتَّى اهـ.
وَبِهَذَا يَبْطُلُ قَوْلُهُ: فَلَا يَلْغُو قَوْلُهُ: قَبْلَهُ لِعَدَمِ الْمُنَافَاةِ اهـ. قُلْت لَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ أَوَّلَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مُؤَيِّدٌ لِكَلَامِ الْمُؤَلِّفِ فِي دَعْوَاهُ عَدَمَ لُزُومِ كَوْنِ مَدْخُولِ أَدَاةِ الشَّرْطِ سَبَبًا، وَالْجَزَاءِ مُسَبَّبًا عَنْهُ إذْ لَا خَفَاءَ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا بِالشَّرْطِ الْوَاقِعِ بَعْدَ الْأَدَاةِ الشَّرْطُ النَّحْوِيُّ لَا الشَّرْعِيُّ (قَوْلُهُ: قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي وَجِيزِهِ. . . إلَخْ) أَقُولُ: رَأَيْت مُؤَلَّفًا مُسْتَقِلًّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِلْعَلَّامَةِ ابْنِ حَجَرٍ الْمَكِّيِّ الشَّافِعِيِّ وَنَقَلَ أَنَّ الْغَزَالِيَّ رَجَعَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ عَمَّا ذَكَرَهُ فِي وَسِيطِهِ وَوَجِيزِهِ وَأَنَّهُ قَالَ الرُّجُوعُ إلَى الْحَقِّ أَوْلَى مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ وَنَقَلَ أَيْضًا عَنْ التَّاجِ السُّبْكِيّ أَنَّ وَالِدَهُ التَّقِيَّ السُّبْكِيَّ رَجَعَ عَنْ الْقَوْلِ بِالْمَسْأَلَةِ السُّرَيْجِيَّةُ وَأَلَّفَ فِيهَا مُؤَلَّفًا سَمَّاهُ النَّوْرَ فِي الدَّوْرِ ثُمَّ نُقِلَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُمْ أَلَّفُوا تَأْلِيفَاتٍ فِي ذَلِكَ رَدُّوا فِيهَا عَلَى الْقَائِلِينَ مِنْهُمْ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ وَقَالَ أَيْضًا وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ سَائِرِ الْمَذَاهِبِ غَيْرِ مَذْهَبِنَا عَلَى فَسَادِ الدَّوْرِ قَالَ وَهَذَا مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ كَيْفَ وَشَنَّعَ عَلَى الْقَائِلِينَ بِصِحَّةِ الدَّوْرِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَدْ نَقَلَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute