مَسْأَلَةَ الْكُوزِ، وَهِيَ مُفَرَّعَةٌ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَذَكَرَ أَنَّهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ وَجْهَانِ فِي الْمُقَيَّدَةِ وَوَجْهَانِ فِي الْمُطْلَقَةِ أَمَّا فِي الْمُقَيَّدَةِ فَهِيَ عَلَى وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ مَاءٌ أَصْلًا أَوْ كَانَ فِيهِ مَاءٌ وَقْتَ الْحَلِفِ ثُمَّ صُبَّ قَبْلَ مُضِيِّ الْوَقْتِ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا لَا يَحْنَثُ لِعَدَمِ انْعِقَادِ الْيَمِينِ فِي الْأَوَّلِ، وَلِبُطْلَانِهَا عِنْدَ الصَّبِّ فِي الثَّانِي عِنْدَهُمَا، وَلَا فَرْقَ فِي الْوَقْتِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْيَوْمَ أَوْ الشَّهْرَ أَوْ الْجُمُعَةَ.
وَأَمَّا الْمُطْلَقَةُ فَعَلَى وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ مَاءٌ أَصْلًا فَلَا يَحْنَثُ لِعَدَمِ انْعِقَادِ الْيَمِينِ أَوْ كَانَ فِيهِ وَصُبَّ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ لِانْعِقَادِهَا لِإِمْكَانِ الْبِرِّ ثُمَّ يَحْنَثُ بِالصَّبِّ؛ لِأَنَّ الْبِرَّ يَجِبُ عَلَيْهِ كَمَا فُرِّغَ فَإِذَا صُبَّ فَقَدْ فَاتَ الْبِرُّ فَيَحْنَثُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَمَا لَوْ مَاتَ الْحَالِفُ وَالْمَاءُ بَاقٍ وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَدْ صَبَّهُ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ أَوْ مَالَ الْكُوزُ فَانْصَبَّ مَا فِيهِ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَيَحْنَثُ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا غَيْرَ أَنَّهُ فِي الْمُؤَقَّتِ يَحْنَثُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ، وَفِي الْمُطْلَقِ يَحْنَثُ لِلْحَالِ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَاءٌ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَاءٌ يَحْنَثُ عِنْدَ الصَّبِّ، وَأَطْلَقَ الْمُصَنِّفُ فِي عَدَمِ حِنْثِهِ فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثَةِ فَشَمِلَ مَا إذَا عَلِمَ الْحَالِفُ أَنَّ فِيهِ مَاءً أَوْ لَا، وَمَا إذَا عَلِمَ أَنْ لَا مَاءَ فِيهِ، وَقَيَّدَهُ الْإِسْبِيجَابِيُّ بِعَدَمِ عِلْمِهِ بِأَنْ لَا مَاءَ فِيهِ، وَأَمَّا إذَا عَلِمَ بِأَنْ لَا مَاءَ فِيهِ يَحْنَثُ بِالِاتِّفَاقِ. اهـ.
؛ لِأَنَّهُ إذَا عَلِمَ وَقَعَتْ يَمِينُهُ عَلَى مَا يَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ الْعَدَمُ فَيَحْنَثُ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ قَالَ لَا يَحْنَثُ عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ. اهـ.
وَصَحَّحَ فِي التَّبْيِينِ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ إنْ لَمْ أَقْتُلْ فُلَانًا فَكَذَا، وَلِذَا أَطْلَقَ هُنَا فِي الْمُخْتَصَرِ وَجَزَمَ بِالْإِطْلَاقِ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ، وَقَدْ تَفَرَّعَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ: مِنْهَا مَا لَوْ حَلَفَ لَيَقْتُلَنَّ زَيْدًا الْيَوْمَ فَمَاتَ زَيْدٌ قَبْلَ مُضِيِّ الْيَوْمِ لَا يَحْنَثُ عِنْدَ هُمَا كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَمِنْهَا لَوْ حَلَفَ لَيَأْكُلَنَّ هَذَا الرَّغِيفَ الْيَوْمَ فَأَكَلَهُ غَيْرُهُ قَبْلَ اللَّيْلِ. وَمِنْهَا لَوْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ فُلَانًا دَيْنَهُ غَدًا، وَفُلَانٌ قَدْ مَاتَ، وَلَا عِلْمَ لَهُ أَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ مُضِيِّ الْغَدِ أَوْ قَضَاهُ قَبْلَهُ أَوْ أَبْرَأَهُ فُلَانٌ قَبْلَهُ لَمْ تَنْعَقِدْ، وَمِنْهَا مَا لَوْ
ــ
[منحة الخالق]
فَإِنَّ مَنْ أَخْبَرَ بِخَبَرٍ أَوْ وَعَدَ بِوَعْدٍ يُؤَكِّدُهُ بِالْيَمِينِ لِتَحَقُّقِ الصِّدْقِ فَكَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْبِرَّ ثُمَّ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ خَلَفًا عَنْهُ لِرَفْعِ حُكْمِ الْحِنْثِ، وَهُوَ الْإِثْمُ لِيَصِيرَ بِالتَّكْفِيرِ كَالْبَارِّ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْبِرُّ مُتَصَوَّرًا لَا تَنْعَقِدُ فَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ خَلَفًا عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ حُكْمُ الْيَمِينِ وَحُكْمُ الشَّيْءِ إنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ انْعِقَادِهِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ بِخِلَافِ صُعُودِ السَّمَاءِ وَتَحْوِيلِ الْحَجَرِ ذَهَبًا وَالطَّيَرَانِ فِي الْهَوَاءِ وَشُرْبِ مَاءِ دِجْلَةَ؛ لِأَنَّ الْبِرَّ مُتَصَوَّرٌ فِي الْجُمْلَةِ لِجَوَازِ أَنْ يُقْدِرَ اللَّهُ تَعَالَى عَبْدًا مِنْ عِبَادِهِ عَلَى صُعُودِ السَّمَاءِ، وَمَسِّهَا وَغَيْرِهِ فَتُوُهِّمَ وُجُودُهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ صَعِدَ الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - وَالْمَلَائِكَةُ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - تَصْعَدُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَكَمَا أَكْرَمَ آصف وَزِيرَ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَيْثُ قَالَ {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: ٤٠] ، وَأَنَّهُ خِلَافُ الْعَادَةِ فَبِاعْتِبَارِ التَّصَوُّرِ فِي الْجُمْلَةِ انْعَقَدَتْ الْيَمِينُ وَبِاعْتِبَارِ الْعَجْزِ الثَّابِتِ عَادَةً حَنِثَ لِلْحَالِ، وَهَذَا الْعَجْزُ غَيْرُ الْعَجْزِ الْمُقَارِنِ لِلْيَمِينِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَجْزَ عَنْ الْبِرِّ الْوَاجِبِ بِالْيَمِينِ وَبِهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ مُقَارِنًا لِلْيَمِينِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْكُوزِ مَاءٌ وَأُهْرِقَ قَبْلَ اللَّيْلِ بَطَلَتْ الْيَمِينُ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَبْقَى وَتَنْعَقِدُ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهَا إنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً، وَفِيهِ مَاءٌ فَمَا دَامَ الْحَالِفُ وَالْمَحْلُوفُ قَائِمَيْنِ لَا يَحْنَثُ، وَإِذَا هَلَكَ أَحَدُهُمَا يَحْنَثُ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ هَلَكَ الْمَحْلُوفُ يَحْنَثُ، وَقْتَ الْهَلَاكِ، وَإِنْ هَلَكَ الْحَالِفُ يَحْنَثُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْحِنْثَ بِفَوَاتِ الْبِرِّ فِي جَمِيعِ عُمُرِهِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ لِوُقُوعِ الْيَأْسِ عَنْ الْفِعْلِ، وَإِنْ كَانَتْ مُؤَقَّتَةً إنْ كَانَ الْحَالِفُ وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ قَائِمَيْنِ، وَمَضَى الْوَقْتُ حَنِثَ فِي قَوْلِهِمْ لِوُقُوعِ الْيَأْسِ عَنْ الْفِعْلِ فِي الْوَقْتِ الْمَشْرُوطِ، وَإِنْ هَلَكَ الْحَالِفُ وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ قَائِمٌ، وَمَضَى الْوَقْتُ لَا يَحْنَثُ عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْنَثُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ تَرْكُ الْفِعْلِ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ فَإِذَا كَانَ مَيِّتًا فِي آخِرِ الْوَقْتِ فَالْمَيِّتُ لَا يُوصَفُ بِالْحِنْثِ، وَلَوْ هَلَكَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ وَالْوَقْتُ بَاقٍ وَالْحَالِفُ قَائِمٌ بَطَلَتْ الْيَمِينُ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَحْنَثُ. اهـ.
بِاخْتِصَارٍ. (قَوْلُهُ: وَأَطْلَقَ الْمُصَنِّفُ إلَخْ) قَالَ الرَّمْلِيُّ مُقْتَضَى مَا اخْتَارَهُ فِي مَسْأَلَةِ إنْ لَمْ أَقْتُلْ فُلَانًا مِنْ التَّفْصِيلِ بَيْنَ الْعِلْمِ، وَعَدَمِهِ أَنْ يُحْمَلَ إطْلَاقُهُ هُنَا عَلَى عَدَمِ الْعِلْمِ حَمْلًا لِلْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ لِيَكُنْ مَاشِيًا عَلَى وَتِيرَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَإِنْ كَانَ فِي التَّبْيِينِ صَحَّحَ رِوَايَةَ الْإِطْلَاقِ لِاحْتِمَالِ اخْتِيَارِهِ رِوَايَةَ التَّفْصِيلِ كالإسبيجابي فَيَكُونُ فِي الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافُ التَّصْحِيحِ وَالتَّرْجِيحِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ لَكِنَّ الزَّيْلَعِيَّ فَرَّقَ بَيْنَ مَسْأَلَةِ الْكُوزِ وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الْقَتْلِ بِأَنَّهُ إذَا كَانَ عَالِمًا فَقَدْ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى حَيَاةٍ يُحْدِثُهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ مُتَصَوَّرٌ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْكُوزِ فَإِنَّ مَا يُحْدِثُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ غَيْرُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مَا أَطْلَقَهُ هُنَا جَارِيًا عَلَى إطْلَاقِهِ تَأَمَّلْ. اهـ.
أَيْ؛ لِأَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ هُنَا مَاءٌ مَظْرُوفٌ فِي الْكُوزِ وَقْتَ الْحَلِفِ دُونَ الْحَادِثِ بَعْدَهُ لَكِنْ قَدْ يُقَالُ إنَّهُ إذَا كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ لَا مَاءَ فِيهِ يَكُونُ الْمُرَادُ مَاءً مَظْرُوفًا فِيهِ بَعْدَ الْحَلِفِ كَمَا فِي لَأَقْتُلَنَّ فُلَانًا فَإِنَّ الْقَتْلَ إزْهَاقُ الرُّوحِ فَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِمَوْتِهِ يُرَادُ رُوحٌ مُسْتَحْدَثٌ. (قَوْلُهُ: لَمْ تَنْعَقِدْ) قَالَ الرَّمْلِيُّ عَدَمُ الِانْعِقَادِ فِيمَا إذَا كَانَ مَيِّتًا وَقْتَ الْحَلِفِ أَمَّا إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ مُضِيِّ الْغَدِ أَوْ قَضَاهُ أَوْ أَبْرَأَهُ قَبْلَهُ تَبْطُلُ بَعْدَ الِانْعِقَادِ إذْ شَرْطُ بَقَاءِ الْمُؤَقَّتَةِ