بِالْكَلَامِ وَالْكِتَابَةِ دُونَ الْإِشَارَةِ دُيِّنَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُحَدِّثُهُ لَا يَحْنَثُ إلَّا أَنْ يُشَافِهَهُ، وَكَذَا لَا يُكَلِّمُهُ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمُشَافَهَةِ، وَلَوْ قَالَ لَا أُبَشِّرُهُ فَكَتَبَ إلَيْهِ حَنِثَ، وَفِي قَوْلِهِ إنْ أَخْبَرْتَنِي أَنَّ فُلَانًا قَدِمَ وَنَحْوَهُ يَحْنَثُ بِالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، وَلَوْ قَالَ بِقُدُومِهِ وَنَحْوِهِ فَعَلَى الصِّدْقِ خَاصَّةً، وَكَذَا إنْ أَعْلَمْتَنِي، وَكَذَا الْبِشَارَةُ، وَمِثْلُهُ إنْ كَتَبْتَ إلَيَّ أَنَّ فُلَانًا قَدِمَ فَكَتَبَ قَبْلَ قُدُومِهِ فَوَصَلَ إلَيْهِ الْكِتَابُ حَنِثَ سَوَاءٌ وَصَلَ إلَيْهِ قَبْلَ قُدُومِهِ أَوْ بَعْدَهُ بِخِلَافِ إنْ كَتَبْتَ إلَيَّ بِقُدُومِهِ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَكْتُبَ بِقُدُومِهِ الْوَاقِعِ وَذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ سَأَلَنِي هَارُونُ الرَّشِيدُ عَمَّنْ حَلَفَ لَا يَكْتُبُ إلَى فُلَانٍ فَأَمَرَ مَنْ يَكْتُبُ إلَيْهِ بِإِيمَاءٍ أَوْ إشَارَةٍ هَلْ يَحْنَثُ فَقُلْتُ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إذَا كَانَ مِثْلُكَ قَالَ السَّرَخْسِيُّ، وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ السُّلْطَانَ لَا يَكْتُبُ بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَأْمُرُ بِهِ، وَمِنْ عَادَتِهِمْ الْأَمْرُ بِالْإِيمَاءِ وَالْإِشَارَةِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَقْرَأُ كِتَابَ فُلَانٍ فَنَظَرَ فِيهِ حَتَّى فَهِمَهُ لَا يَحْنَثُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَيَحْنَثُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْوُقُوفُ عَلَى مَا فِيهِ لَا عَيْنُ التَّلَفُّظِ بِهِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا، وَفُلَانًا لَمْ يَحْنَثْ بِكَلَامِ أَحَدِهِمَا إلَّا أَنْ يَنْوِيَ كُلًّا مِنْهُمَا فَيَحْنَثُ بِكَلَامِ أَحَدِهِمَا، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَإِنْ ذُكِرَ خِلَافُهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ كَذَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ.
وَلَوْ قَالَ لَا أُبَلِّغُكَ شَيْئًا فَكَتَبَ إلَيْهِ حَنِثَ، وَلَوْ قَالَ لَا أُذَكِّرُكَ شَيْئًا فَهُوَ عَلَى الْمُوَاجَهَةِ، وَلَا يَحْنَثُ بِالْكِتَابَةِ، وَلَوْ قَالَ لَا أُظْهِرُ سِرَّكَ، وَلَا أُفْشِي أَبَدًا فَإِنْ صَرَّحَ إلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ وَذَكَرَهُ فَقَدْ أَفْشَى سِرَّهُ، وَكَذَلِكَ يَحْنَثُ بِالْكِتَابَةِ وَالرِّسَالَةِ إلَى إنْسَانٍ كَذَا فِي الْمُحِيطِ، وَفِي الْوَاقِعَاتِ حَلَفَ أَنْ لَا يَكْذِبَ فَسَأَلَهُ إنْسَانٌ عَنْ أَمْرٍ فَحَرَّكَ رَأْسَهُ بِالْكَذِبِ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ تَكَلُّمٌ بِكَلَامٍ هُوَ كَذِبُ ابْنٍ بَيْنَ زَيْدٍ، وَعَمْرٍو حَلَفَ رَجُلٌ لَا يُكَلِّمُ ابْنَ زَيْدٍ وَحَلَفَ الْآخَرُ لَا يُكَلِّمُ ابْنَ عَمْرٍو فَكَلَّمَا هَذَا الِابْنَ حَنِثَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ كَلَّمَ ابْنَ مَنْ سَمَّى إنْ كَلَّمْتُ امْرَأَةً فَعَبْدِي حُرٌّ فَكَلَّمَ صَبِيَّةً لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ قَالَ إنْ تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً فَتَزَوَّجَ صَبِيَّةً حَنِثَ؛ لِأَنَّ الصِّبَا مَانِعٌ مِنْ هِجْرَانِ الْكَلَامِ فَلَا تُرَادُ الصَّبِيَّةُ فِي الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ عَلَى الْكَلَامِ عَادَةً، وَلَا كَذَلِكَ التَّزَوُّجُ. اهـ.
وَفِي الظَّهِيرِيَّةِ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ امْرَأَتَهُ فَدَخَلَ دَارِهِ، وَلَيْسَ فِيهَا غَيْرُهَا فَقَالَ مَنْ وَضَعَ هَذَا حَنِثَ، وَلَوْ كَانَ مَعَهَا غَيْرُهَا لَا يَحْنَثُ، وَلَوْ قَالَ لَيْتَ شِعْرِي مَنْ وَضَعَ هَذَا لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَفْهَمَ نَفْسَهُ، وَلَوْ قَرَأَ الْحَالِفُ كِتَابًا عَلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ يَكْتُبُ إنْ قَصَدَ الْحَالِفُ إمْلَاءَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ قَالُوا يُخَافُ عَلَيْهِ الْحِنْثُ. اهـ.
وَفِي السِّرَاجِيَّةِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ سَأَلَ حَالَ صِغَرِهِ أَبَا حَنِيفَةَ فِيمَنْ قَالَ لِآخَرَ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ثُمَّ مَاذَا فَتَبَسَّمَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَ اُنْظُرْ حَسَنًا يَا شَيْخُ فَنَكَسَ أَبُو حَنِيفَةَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ حَنِثَ مَرَّتَيْنِ فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدٌ أَحْسَنْتَ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا أَدْرِي أَيُّ الْكَلِمَتَيْنِ أَوْجَعُ لِي قَوْلُهُ: اُنْظُرْ حَسَنًا أَوْ أَحْسَنْتَ. اهـ.
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ مَا إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ إلَّا بِإِذْنِهِ فَأَذِنَ لَهُ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْإِذْنِ حَتَّى كَلَّمَهُ فُلَانٌ الْإِذْنُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْأَذَانِ الَّذِي هُوَ الْإِعْلَامُ أَوْ مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْأُذُنِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالسَّمَاعِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ هُوَ الْإِطْلَاقُ، وَأَنَّهُ يَتِمُّ بِالْإِذْنِ كَالرِّضَا قُلْنَا الرِّضَا مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ، وَلَا كَذَلِكَ الْإِذْنُ عَلَى مَا مَرَّ، وَلَا يُخَالِفُهُ مَا فِي التَّتِمَّةِ وَالْفَتَاوَى الصُّغْرَى إذَا أَذِنَ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ وَالْعَبْدُ لَا يَعْلَمُ لَا يَصِحُّ الْإِذْنُ حَتَّى إذَا عَلِمَ يَصِيرُ مَأْذُونًا؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ يَثْبُتُ مَوْقُوفًا عَلَى الْعِلْمِ فَلَيْسَ لَهُ قَبْلَ الْعِلْمِ حُكْمُ الْإِذْنِ، وَلِذَا قَالَ فِي الشَّامِلِ إذَا أَذِنَ لِعَبْدِهِ فَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ فَتَصَرَّفَ الْعَبْدُ ثُمَّ عَلِمَ بِإِذْنِهِ لَمْ يَجُزْ تَصَرُّفُهُ.
(قَوْلُهُ: لَا يُكَلِّمُهُ شَهْرًا فَهُوَ مِنْ حِينَ حَلَفَ) ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ الشَّهْرَ تَتَأَبَّدُ الْيَمِينُ فَذَكَرَ الشَّهْرَ لِإِخْرَاجِ مَا وَرَاءَهُ فَبَقِيَ مَا يَلِي يَمِينَهُ دَاخِلًا عَمَلًا بِدَلَالَةِ الْحَالِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَأَصُومَنَّ شَهْرًا أَوْ لَأَعْتَكِفَنَّ شَهْرًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ الشَّهْرَ لَا تَتَأَبَّدُ الْيَمِينُ فَكَانَ ذِكْرُهُ لِتَقْدِيرِ الصَّوْمِ بِهِ، وَأَنَّهُ مُنْكَرٌ
ــ
[منحة الخالق]
بِالْإِشَارَةِ لَمْ يَحْنَثْ فَمَا مَعْنَى كَوْنِهِ يُصَدَّقُ دِيَانَةً وَالْعِبَارَةُ الْمَذْكُورَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْفَتْحِ، وَمِثْلُهَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ تَأَمَّلْ (قَوْلُهُ: وَكَذَا إنْ أَعْلَمْتنِي، وَكَذَا الْبِشَارَةُ) هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا سَيَذْكُرُهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الْبَابِ الْآتِي مِنْ أَنَّ الْبِشَارَةَ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ عَلَى الصِّدْقِ بِلَا فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْبَاءِ أَوْ لَا، وَكَذَا الْإِعْلَامُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الصِّدْقِ؛ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ الْعِلْمِ وَالْكَذِبُ لَا يُفِيدُهُ بِلَا فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَأْتِيَ فِيهِ بِالْبَاءِ أَوْ لَا.
(قَوْلُهُ: لَا يَحْنَثُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَيَحْنَثُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ) سَيَأْتِي فِي شَرْحِ قَوْلِهِ لَا يَتَكَلَّمُ أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ (قَوْلُهُ: وَلَا يُخَالِفُهُ مَا فِي التَّتِمَّةِ وَالْفَتَاوَى الصُّغْرَى إلَخْ) أَيْ لَا يُخَالِفُ الْقَوْلَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الرِّضَا وَالْإِذْنِ، وَهُوَ قَوْلُهُمَا، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ قَوْلِهِ يَصِحُّ الْإِذْنُ بِدُونِ