للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ وَفَائِدَةُ هَذِهِ الْمُقَابَلَةِ فِي الْآيَةِ عَلَى مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَتْ بَيْنَ بَنِي النَّضِيرِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ مُقَابَلَةٌ وَكَانَ بَنُو قُرَيْظَةَ أَقَلَّ مِنْهُمْ عَدَدًا، وَكَانَ بَنُو النَّضِيرِ أَشْرَفَ عِنْدَهُمْ فَتَرَاضَوْا عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ بِمُقَابَلَةِ الْحُرِّ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالْأُنْثَى مِنْهُمْ بِمُقَابَلَةِ الذَّكَرِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ رَدًّا عَلَيْهِمْ وَبَيَانًا عَلَى أَنَّ الْجِنْسَ يُقْتَلُ بِجِنْسِهِ عَلَى اخْتِلَافِ مُوَاضَعَتِهِمْ مِنْ الْقَبِيلَتَيْنِ جَمِيعًا فَكَانَتْ اللَّامُ لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ لَا لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ؛ وَلِأَنَّهُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي الْعِصْمَةِ إذْ هِيَ بِالدَّيْنِ عِنْدَهُ وَبِالدَّارِ عِنْدَنَا، وَهِيَ الْمُعْتَبَرَةُ فَيَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا حَسْمًا لِمَادَّةِ الْفَسَادِ وَتَحْقِيقًا لِمَعْنَى الزَّجْرِ، وَلَوْ اُعْتُبِرَتْ الْمُسَاوَاةُ فِي غَيْرِ الْعِصْمَةِ فِي النَّفْسِ لَمَا جَرَى الْقِصَاصُ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالْقِصَاصُ يَجِبُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ آدَمِيٌّ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي الْمِلْكِ مِنْ، هَذَا الْوَجْهِ بَلْ هُوَ مَنْفِيٌّ عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ مِنْ، هَذَا الْوَجْهِ؛ وَلِهَذَا يُقْتَلُ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَكَذَا يُقْتَلُ الْعَبْدُ بِالْحُرِّ، وَلَوْ كَانَ مَالًا لَمَا قُتِلَ وَكَذَلِكَ عَجْزُهُ وَمَوْتُهُ وَبَقَاءُ أَثَرِ كُفْرِهِ حُكْمِيٌّ فَلَا يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي سُقُوطِ الْعِصْمَةِ وَلَا يُؤَثِّرُ شُبْهَةً، وَلَوْ أَوْرَثَ شُبْهَةً لَمَا جَرَى الْقِصَاصُ بَيْنَ الْعَبِيدِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ وَوُجُوبُ الْقِصَاصِ فِي الْأَطْرَافِ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْجُزْءِ الْمُبَانِ بَعْدَ الْمُسَاوَاةِ فِي الْعِصْمَةِ؛ وَلِهَذَا لَا تُقْطَعُ الصَّحِيحَةُ بِالشَّلَّاءِ وَفِي النَّفْسِ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ حَتَّى يُقْتَلُ الصَّحِيحُ بِالزَّمِنِ وَالْمَفْلُوجِ وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ أَطْرَافِ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ إلَّا فِي الْعِصْمَةِ فَأَظْهِرَنَّ أَثَرَ الرِّقِّ فِيهَا دُونَ النَّفْسِ لِمَا أَنَّ الْعَبْدَ مِنْ حَيْثُ النَّفْسُ آدَمِيٌّ مُكَلَّفٌ خُلِقَ مَعْصُومًا.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَالْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ) يَعْنِي يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُقْتَلُ بِهِ لِمَا أَخْرَجَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» الْحَدِيثَ وَلَنَا مَا تَلَوْنَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَمَا رَوَيْنَا مِنْ السُّنَّةِ، فَإِنَّهُ بِإِطْلَاقِهِ يَتَنَاوَلُهُ وَقَدْ صَحَّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَلَمَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بِرَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَدْ قَتَلَ مُعَاهِدًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ عُنُقُهُ فَقَالَ أَنَا أَوْلَى مَنْ وَافَى بِذِمَّتِهِ» وَالْقِصَاصُ يَعْتَمِدُ الْعِصْمَةَ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْعَبْدِ وَقَدْ وُجِدَتْ نَظَرًا إلَى الدَّارِ وَإِلَى التَّكْلِيفِ؛ وَلِأَنَّ شَرْطَ التَّكْلِيفِ الْقُدْرَةُ عَلَى مَا كُلِّفَ بِهِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ مَا كُلِّفَ بِهِ إلَّا بِدَفْعِ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ عَنْهُ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مُحَرَّمَ التَّعَرُّضِ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْكُفْرَ مُبِيحٌ بِنَفْسِهِ بَلْ بِوَاسِطَةِ الْحِرَابِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ لَا يُقَاتِلُ مِنْهُمْ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ كَالشَّيْخِ الْفَانِي، وَقَدْ انْدَفَعَ الْحِرَابُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ فَكَانَ مَعْصُومًا بِلَا شُبْهَةٍ؛ وَلِهَذَا يُقْتَلُ الذِّمِّيُّ بِالذِّمِّيِّ، وَلَوْ كَانَ فِي عِصْمَتِهِ خَلَلٌ لَمَا قُتِلَ الذِّمِّيُّ بِالذِّمِّيِّ كَمَا لَا يُقْتَلُ الْمُسْتَأْمَنُ بِالْمُسْتَأْمَنِ وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّمَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِتَكُونَ دِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا وَأَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ مَعْصُومَةً بِلَا شُبْهَةٍ كَالْمُسْلِمِ؛ وَلِهَذَا يُقْطَعُ الْمُسْلِمُ بِسَرِقَةِ مَالِ الذِّمِّيِّ، وَلَوْ كَانَتْ فِي عِصْمَتِهِ شُبْهَةٌ لَمَا قُطِعَ كَمَا لَا يُقْطَعُ فِي سَرِقَةِ مَالِ الْمُسْتَأْمَنِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ تَبَعٌ لِلنَّفْسِ وَأَمْرُ الْمَالِ أَهْوَنُ مِنْ النَّفْسِ، فَلَمَّا قُطِعَ بِسَرِقَتِهِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يُقْتَلَ بِقَتْلِهِ؛ لِأَنَّ أَمْرَ النَّفْسِ أَعْظَمُ مِنْ الْمَالِ.

أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِ مَوْلَاهُ وَيُقْتَلُ بِقَتْلِ مَوْلَاهُ لِمَا ذَكَرْنَا وَاَلَّذِي يَدُلُّك عَلَى مَا قُلْنَا أَنَّ الذِّمِّيَّ لَوْ قَتَلَ ذِمِّيًّا ثُمَّ أَسْلَمَ الْقَاتِلُ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ قُتِلَ بِهِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْحَرْبِيُّ إذْ هُوَ لَا يُقْتَلُ بِهِ مُسْلِمٌ وَلَا ذِمِّيٌّ وَلَا يُقَالُ مَعْنَاهُ لَا يُقْتَلُ ذُو عَهْدٍ مُطْلَقًا أَيْ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ فَيَكُونُ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ؛ لِأَنَّا نَقُولُ، هَذَا لَا يَسْتَقِيمُ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَا عَهْدٍ مُفْرَدٌ وَقَدْ عُطِفَ عَلَى جُمْلَةٍ فَيَأْخُذُ الْحُكْمُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ النَّاقِصَ يَأْخُذُ الْحُكْمَ مِنْ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ التَّامِّ كَمَا يُقَالُ قَامَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو أَوْ يُقَالُ قُتِلَ زَيْدٌ بِعَمْرٍو وَخَالِدٍ أَيْ: كِلَاهُمَا قَامَ أَوْ قُتِلَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ لَهُ خَبَرٌ آخَرُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى يَأْبَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِسَوْقِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ نَفْيُ الْقَتْلِ قِصَاصًا لَا نَفْيُ مُطْلَقِ الْقَتْلِ فَكَذَا الثَّانِي تَحْقِيقًا لِلْعَطْفِ إذْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ فِي الْمُفْرَدِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [فاطر: ١٩] أَنَّ الْمَنْفِيَّ الِاسْتِوَاءُ فِي الْبَصَرِ وَالْعَمَى لَا فِي كُلِّ وَصْفٍ؛ وَلِهَذَا أُجْرِيَ الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْعِصْمَةِ وَكَذَا نُقْصَانُ حَالِ الْكَافِرِ بِكُفْرِهِ لَا يُزِيلُ عِصْمَتَهُ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ كَسَائِرِ الْأَوْصَافِ النَّاقِصَةِ كَالشَّلَلِ وَالْأُنُوثَةِ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُفْرَهُ مُبِيحٌ لِلْقَتْلِ بَلْ حِرَابُهُ هُوَ الْمُبِيحُ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ مِنْ الْمِلْكِ وَالْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعِ، فَإِنَّهُ مُبِيحٌ لِلْوَطْءِ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ فِي الْأُخْتِ الْمَذْكُورَةِ بِعَارِضٍ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَا يُقْتَلَانِ بِمُسْتَأْمَنٍ) أَيْ لَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ وَلَا الذِّمِّيُّ بِحَرْبِيٍّ دَخَلَ دَارَنَا بِأَمَانٍ؛ لِأَنَّ دَمَهُ لَيْسَ بِمَحْقُونٍ عَلَى التَّأْبِيدِ فَانْعَدَمَتْ الْمُسَاوَاةُ وَكَذَا كُفْرُهُ بَاعِثٌ عَلَى الْحِرَابِ لِقَصْدِهِ الرُّجُوعَ

<<  <  ج: ص:  >  >>