أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ فِي الْخَبَرِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ عَدَا يَهُودِيٌّ عَلَى جَارِيَةٍ فَأَخَذَهَا بِمَا مَعَهَا الْحَدِيثَ، وَهَذَا شَأْنُ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَهَذَا يُقْتَلُ بِأَيٍّ شَاءَ الْإِمَامُ وَيُؤَيِّدُ، هَذَا الْمَعْنَى مَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَتَلَ الْيَهُودِيَّ بِخِلَافِ مَا كَانَ قَتَلَ بِهِ الْجَارِيَةَ» وَالِاسْتِيفَاءُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِحُكْمِ الْإِرْثِ أَوْ الْمِلْكِ أَوْ بِحُكْمِ السَّلْطَنَةِ وَالْوِلَايَةِ وَالْمُسْتَحِقُّ لِلْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ الْوَرَثَةُ مِثْلُ مَا يَسْتَحِقُّ مَالَهُ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى.
يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ وَالْوَارِثُ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ فِي اسْتِحْقَاقِ كُلِّ مَا كَانَ لَهُ مِنْ الْأَمْلَاكِ وَالْحُقُوقِ إلَّا أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ حَقًّا لِلْمَيِّتِ ابْتِدَاءً حَتَّى تُقْضَى مِنْهَا دُيُونُهُ وَتَنْفُذُ وَصَايَاهُ ثُمَّ تَثْبُتُ لِلْوَرَثَةِ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ وَالْوِرَاثَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَتَّى لَوْ أَقَامَ وَاحِدٌ مِنْ الْوَرَثَةِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْقِصَاصِ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَقْتَصَّ وَحْدَهُ وَلَا يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمْ بِالِاسْتِيفَاءِ إذَا كَانُوا كِبَارًا حَتَّى يَجْتَمِعُوا؛ لِأَنَّا لَوْ أَطْلَقْنَا لِلْبَعْضِ الِاسْتِيفَاءَ مَعَ غَيْبَةِ الْبَاقِينَ يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ حَقِّ الْبَاقِينَ فِي الِاسْتِيفَاءِ وَكَذَلِكَ لَيْسَ لِلسُّلْطَانِ اسْتِيفَاؤُهُ مَعَ الْكَبِيرِ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا حُجَّتُهُمْ أَنَّ مِلْكَ الْقِصَاصِ ثَابِتٌ فِي الْمَحِلِّ لِلْكُلِّ بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ الِاعْتِيَاضَ وَالْعَفْوَ عَنْهُ وَيُسْتَوْفَى بِحُكْمِ الْمِلْكِ عَنْ الِاخْتِيَارِ، وَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمْ يُورَثُ نَصِيبُهُ وَهَذِهِ فَوَائِدُ الْمِلْكِ وَثَمَرَاتُهُ وَمِلْكُ الصَّغِيرِ مَعْصُومٌ مُحْتَرَمٌ وَأَثَرُ الْعِصْمَةِ أَنْ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى إبْطَالِهِ إلَّا بِعِوَضٍ لَهُ إذْ اسْتِيفَاؤُهُ مُعَجَّلًا مُنَجَّزًا يَكُونُ مُنْتَظِمًا دَافِعًا لِلْمَفْسَدَةِ، وَهِيَ صَوْنُ الْقَوَدِ وَحِفْظُهُ عَنْ نَظِيرِهِ فَالْفَوَاتُ إلَيْهَا إمَّا بِجِهَةِ الْغَيْبَةِ أَوْ بِجِهَةِ الْمَوْتِ، فَإِنَّ مُدَّةَ الصِّبَا مُدَّةٌ مَدِيدَةٌ وَالْمَوْتُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الْمَدِيدَةِ غَيْرُ نَادِرٍ وَتَغْيِيبُ الْقَاتِلِ نَفْسَهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَطَّلِعُ أَحَدٌ عَلَيْهِ مَخَافَةً عَلَى نَفْسِهِ غَالِبٌ وَلَيْسَ بَنَادِرُ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (مُكَاتَبٌ قُتِلَ عَمْدًا وَتَرَكَ وَفَاءً وَوَارِثُهُ سَيِّدُهُ فَقَطْ أَوْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً لَهُ وَارِثٌ يَقْتَصُّ) أَمَّا الْأَوَّلُ، وَهُوَ مَا إذَا تَرَكَ وَفَاءً وَلَا وَارِثَ لَهُ سِوَى الْمَالِ فَالْمَذْكُورُ هُنَا هُوَ قَوْلُهُمَا وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ قَدْ اخْتَلَفَ؛ وَلِأَنَّ الْمَوْلَى يَسْتَحِقُّهُ بِالْوِلَايَةِ بِأَنْ مَاتَ حُرًّا أَوْ بِالْمِلْكِ إنْ مَاتَ عَبْدًا فَاشْتَبَهَ الْحَالُ فَلَا يَسْتَحِقُّ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ السَّبَبِ كَاخْتِلَافِ الْمُسْتَحَقِّ فَيَسْقُطُ أَصْلًا كَمَا إذَا كَانَ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُ الْمَوْلَى فَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ بِعْنِي هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِكَذَا وَقَالَ الْمَوْلَى زَوَّجْتهَا مِنْك لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا لِاخْتِلَافِ الْحُكْمِ وَلَهُمَا أَنَّ الْمَوْلَى هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْقِصَاصِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ بِيَقِينٍ، وَهُوَ مَعْلُومٌ فَلَا يَضُرُّ مُجَرَّدُ اخْتِلَافِ السَّبَبِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ لَا يُرَادُ لِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا يُرَادُ لِحُكْمِهِ وَقَدْ حَصَلَ بِخِلَافِ الْمُسْتَشْهَدِ بِهِ لِاخْتِلَافِ حُكْمِ السَّبَبَيْنِ وَلَا يَدْرِي بِأَيِّهِمَا يَحْكُمُ فَلَا يَثْبُتُ الْحِلُّ بِدُونِ تَعْيِينِ السَّبَبِ، وَأَمَّا الثَّانِي، وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً لَهُ وَارِثٌ غَيْرُ الْمَوْلَى فَلِأَنَّهُ مَاتَ رَقِيقًا لِانْفِسَاخِ الْكِتَابَةِ بِمَوْتِهِ لَا عَنْ وَفَاءٍ فَظَهَرَ أَنَّهُ قَتَلَ عَبْدًا عَمْدًا فَيَكُونُ الْقِصَاصُ لِلْمَوْلَى بِخِلَافِ مُعْتَقِ الْبَعْضِ إذَا قُتِلَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً لَهُ حَيْثُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي الْبَعْضِ لَا يُفْسَخُ بِمَوْتِهِ عَاجِزًا؛ وَلِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي أَنَّهُ يَعْتِقُ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ ظَاهِرٌ فَأَشْبَهَ الْمُسْتَحِقَّ فَأَوْرَثَ ذَلِكَ شُبْهَةً كَالْمُكَاتَبِ إذَا قُتِلَ عَنْ وَفَاءٍ أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ أَنَّ أَصْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هُوَ أَنَّ اخْتِلَافَ السَّبَبِ الَّذِي لَا يُفْضِي إلَى مُنَازَعَةٍ وَلَا إلَى الِاخْتِلَافِ، الْحَكَمُ لَا يُبَالِي بِهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ لِلْمَوْلَى الْقِصَاصُ عِنْدَهُمَا فِيمَا إذَا قُتِلَ الْمُكَاتَبُ عَمْدًا وَلَيْسَ لَهُ وَارِثٌ سِوَى الْمَالِ وَتَرَكَ وَفَاءً فَكَيْفَ يَتِمُّ تَعْلِيلُ عَدَمِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مَسْأَلَةِ مُعْتَقِ الْبَعْضِ إذَا مَاتَ عَاجِزًا بِأَنَّ الْمَوْلَى يَسْتَحِقُّ الْقِصَاصَ فِي بَعْضِهِ بِالْوِلَايَةِ وَفِي بَعْضِهِ بِالْمِلْكِ فَلَا يَثْبُتُ لَهُ الِاسْتِحْقَاقُ بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَلَا إفْضَاءَ إلَى الْمُنَازَعَةِ عَلَى مُقْتَضَى، هَذَا التَّعْلِيلِ وَلَا إلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْحُكْمِ فَمِنْ أَيْنَ لَا يَثْبُتُ لَهُ الِاسْتِحْقَاقُ عِنْدَهُ بِمُجَرَّدِ اخْتِلَافِ السَّبَبِ ثُمَّ أَقُولُ: لَعَلَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِمْ بِخِلَافِ مُعْتَقِ الْبَعْضِ إذَا مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً فَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُ الْمَوْلَى يُرْشِدُ إلَيْهِ ذَكَرَ مُخَالِفَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي حَيِّزِ قَوْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً وَلَهُ وَرَثَةٌ أَحْرَارٌ إلَى آخِرِهِ فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ تَتْمِيمُ مَا حَمَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي الْبَعْضِ لَا يَنْفَسِخُ بِالْعَجْزِ بِأَنْ يُقَالَ فَالْمَوْلَى يَسْتَحِقُّ الْقِصَاصَ فِي الْبَعْضِ الْمَمْلُوكِ بِالْمِلْكِ وَالْوَارِثُ يَسْتَحِقُّهُ فِي الْبَعْضِ الْمُعْتَقِ بِالْإِرْثِ فَيَكُونُ السَّبَبَانِ رَاجِعَيْنِ إلَى الشَّخْصَيْنِ فَيُبَالِي بِاخْتِلَافِهِمَا لِلْإِفْضَاءِ إلَى الْمُنَازَعَةِ تَأَمَّلْ تَقَفَّ.
وَاشْتِرَاطُ الْوَارِثِ وَقَعَ اتِّفَاقًا، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ أَيْضًا الْحُكْمُ كَذَلِكَ لِمَوْتِهِ رَقِيقًا، وَذَكَرَ ذَلِكَ لَيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَارِثٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (، وَإِنْ تَرَكَ وَفَاءً وَوَارِثًا لَا) أَيْ لَا يُقْتَصُّ، وَهَذَا بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ اجْتَمَعَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute