لِلْمُقْتَدِي أَنْ لَا يُعَيِّنَ الْإِمَامَ عِنْدَ كَثْرَةِ الْقَوْمِ وَلَا يُعَيِّنُ الْمَيِّتَ وَقَيَّدَ بِالْمُقْتَدِي؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ اقْتِدَاءِ الرِّجَالِ بِهِ نِيَّةُ الْإِمَامَةِ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَؤُمَّ أَحَدًا فَصَلَّى وَنَوَى أَنْ لَا يَؤُمَّ أَحَدًا فَصَلَّى خَلْفَهُ جَمَاعَةٌ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ أَنْ يَقْصِدَ الْإِمَامَةَ وَلَمْ يُوجَدْ بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَؤُمَّ فُلَانًا لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ فَصَلَّى وَنَوَى أَنْ يَؤُمَّ النَّاسَ فَصَلَّى ذَلِكَ الرَّجُلُ مَعَ النَّاسِ خَلْفَهُ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا نَوَى النَّاسَ دَخَلَ فِيهِ هَذَا الرَّجُلُ، وَأَمَّا فِي حَقِّ النِّسَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُنَّ إذَا لَمْ يَنْوِ إمَامَتَهُنَّ؛ لِأَنَّ فِي تَصْحِيحِهِ بِلَا نِيَّةٍ إلْزَامًا عَلَيْهِ بِفَسَادِ صَلَاتِهِ إذَا حَاذَتْهُ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامٍ مِنْهُ وَهُوَ مُنْتَفٍ وَخَالَفَ فِي هَذَا الْعُمُومِ بَعْضُهُمْ فَقَالُوا لَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ النِّسَاءِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْإِمَامُ إمَامَتَهُنَّ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَصَحَّحَهُ صَاحِبُ الْخُلَاصَةِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى اشْتِرَاطِهَا فِي حَقِّهِنَّ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَمَّا صَلَاةُ الْجِنَازَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ اقْتِدَائِهَا بِهِ فِيهَا نِيَّةُ إمَامَتِهَا بِالْإِجْمَاعِ، كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ.
(قَوْلُهُ: وَلِلْجِنَازَةِ يَنْوِي الصَّلَاةَ لِلَّهِ وَالدُّعَاءَ لِلْمَيِّتِ) لِأَنَّهُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ فَيَجِبُ تَعْيِينُهُ وَإِخْلَاصُهُ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَنْوِي الدُّعَاءَ لِلْمَيِّتِ فَقَطْ نَظَرًا إلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَلَاةٍ حَقِيقَةً فَإِنَّ مُطْلَقَ الدُّعَاءِ لَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ. (قَوْلُهُ: وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ) يَعْنِي مِنْ شُرُوطِهَا اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ وَهُوَ اسْتِفْعَالٌ مِنْ قَبِلَتْ الْمَاشِيَةُ الْوَادِي بِمَعْنَى قَابَلَتْهُ وَلَيْسَ السِّينُ فِيهِ لِلطَّلَبِ؛ لِأَنَّ طَلَبَ الْمُقَابَلَةِ لَيْسَ هُوَ الشَّرْطُ بَلْ الشَّرْطُ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ الْمُقَابَلَةُ فَهُوَ بِمَعْنَى فَعَلَ كَاسْتَمَرَّ وَاسْتَقَرَّ وَالْقِبْلَةُ فِي الْأَصْلِ الْحَالَةُ الَّتِي يُقَابِلُ الشَّيْءُ عَلَيْهَا غَيْرَهُ كَالْجِلْسَةِ لِلْحَالَةِ الَّتِي يَجْلِسُ عَلَيْهَا وَالْآنَ، وَقَدْ صَارَتْ كَالْعَلَمِ لِلْجِهَةِ الَّتِي تُسْتَقْبَلُ فِي الصَّلَاةِ وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ يُقَابِلُونَهَا فِي صَلَاتِهِمْ وَتَقَابُلُهُمْ وَهُوَ شَرْطٌ بِالْكِتَابِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: ١٤٤] وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْمَسْجِدِ هُنَا فَقِيلَ الْمَسْجِدُ الْكَبِيرُ الَّذِي فِيهِ الْكَعْبَةُ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الْكَعْبَةِ يَصْعُبُ اسْتِقْبَالُهَا لِصِغَرِهَا وَقِيلَ الْحَرَمُ كُلُّهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْحَرَمُ كَمَا فِي قَوْلِهِ {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء: ١] وَالصَّحِيحُ كَمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ نَجْمُ الدِّينِ فِي تَفْسِيرِهِ وَالنَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْكَعْبَةُ فَهِيَ الْقِبْلَةُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عَامَّةُ الْأَحَادِيثِ وَمِنْهَا مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ الْبَرَاءِ «صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ صُرِفْنَا نَحْوَ الْكَعْبَةِ» وَالنُّكْتَةُ فِي ذِكْرِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِرَادَةِ الْكَعْبَةِ كَمَا فِي الْكَشَّافِ وَحَوَاشِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي حَقِّ الْغَائِبِ هُوَ الْجِهَةُ، وَبِالسُّنَّةِ كَثِيرٌ مِنْهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِلْمُسِيءِ صَلَاتَهُ إذَا قُمْت إلَى الصَّلَاةِ فَأَسْبِغْ الْوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ وَكَبِّرْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَانْعَقَدَ
ــ
[منحة الخالق]
الشَّيْخُ فَإِذَا هُوَ شَابٌّ عَالِمٌ فَإِنَّ الشَّابَّ يَصِيرُ شَيْخًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ سَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا أَوْ جَاهِلًا. (قَوْلُهُ: لَمْ يَحْنَثْ) لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ فَفِي الْأَشْبَاهِ عَنْ الْخَانِيَّةِ يَحْنَثُ قَضَاءً لَا دِيَانَةً إلَّا إذَا أَشْهَدَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فَلَا حِنْثَ قَضَاءً
(قَوْلُهُ: وَبِالسُّنَّةِ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ بِالْكِتَابِ. (قَوْلُهُ: إذَا قُمْت إلَى الصَّلَاةِ فَأَسْبِغْ إلَخْ) وَتَمَامُ حَدِيثِهِ مَا ذُكِرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِإِسْنَادِهِ إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: إنَّ «رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسٌ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْك السَّلَامُ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ فَرَجَعَ فَصَلَّى كَمَا صَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ وَعَلَيْك السَّلَامُ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَقَالَ الرَّجُلُ وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا فَعَلِّمْنِي قَالَ إذَا قُمْت إلَى الصَّلَاةِ فَأَسْبِغْ الْوُضُوءَ ثُمَّ اسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِك كُلِّهَا» اسْتَدَلَّ الْفُقَهَاءُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى فَرْضِيَّةِ مَا ذُكِرَ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يُفْعَلُ فِي الصَّلَاةِ أَوْ خَارِجِهَا وَعَلَى عَدَمِ فَرْضِيَّةِ مَا لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ فِي الصَّلَاةِ، أَمَّا فَرْضِيَّةُ مَا ذُكِرَ فِيهِ فَلِكَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهِ وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ، وَأَمَّا عَدَمُ فَرْضِيَّةِ مَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ فِي الصَّلَاةِ فَلِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَعْلِيمِ الصَّلَاةِ وَتَعْرِيفِ أَرْكَانِهَا وَذَلِكَ يَقْتَضِي انْحِصَارَ الْفَرَائِضِ فِيمَا ذُكِرَ فِيهِ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَمَرَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِالْوُضُوءِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَالتَّكْبِيرِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِمَا تَيَسَّرَ وَالرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ وَالسَّجْدَةِ الْأُولَى وَالرَّفْعِ مِنْهَا وَالثَّانِيَةِ وَالرَّفْعِ مِنْهَا فَيَدُلُّ الْأَمْرُ عَلَى وُجُوبِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَقَوْلُهُ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا وَحَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا وَحَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا وَحَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ تَعْدِيلِ الْأَرْكَانِ فِيهَا هَذَا مَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ مَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ فَمِنْهُ مَا اسْتَدَلُّوا عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ وَمِنْهُ مَا اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ التَّشَهُّدِ لِذَلِكَ وَمِنْهُ مَا اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ السَّلَامِ لِذَلِكَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute