وَمُقْتَضَى الدَّلِيلِ مِنْ الْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهَا وُجُوبُهَا لَكِنَّ الْمَذْهَبَ خِلَافُهُ وَمَا فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ مِنْ أَنَّ الْأَصَحَّ وُجُوبُهَا إنْ كَانَ بِالنَّظَرِ إلَى الدِّرَايَةِ فَمُسَلَّمٌ لِمَا عَلِمْت مِنْ الْمُوَاظَبَةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الرِّوَايَةِ فَلَا، وَقَدْ صَرَّحَ الشَّارِحُونَ بِالسُّنِّيَّةِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ ذِكْرًا مَسْنُونًا، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَنَا، وَكَذَا بَعْدَ الرَّفْعِ مِنْ الرُّكُوعِ وَمَا وَرَدَ فِيهِمَا مِنْ الدُّعَاءِ فَمَحْمُولٌ عَلَى التَّهَجُّدِ، قَالَ يَعْقُوبُ سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ الرَّجُلِ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ فِي الْفَرِيضَةِ أَيَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي قَالَ يَقُولُ رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ وَسَكَتَ، وَكَذَلِكَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ فَقَدْ أَحْسَنَ حَيْثُ لَمْ يَنْهَهُ عَنْ الِاسْتِغْفَارِ صَرِيحًا مِنْ قُوَّةِ احْتِرَازِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا مِقْدَارَ الرَّفْعِ الَّذِي يَكُونُ فَاصِلًا بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ فَإِنَّ فِيهِ أَرْبَعَ رِوَايَاتٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، صَحَّحَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ أَنَّهُ إنْ كَانَ إلَى الْقُعُودِ أَقْرَبَ جَازَ، وَإِنْ كَانَ إلَى السُّجُودِ أَقْرَبَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يُعَدُّ سَاجِدًا وَصَحَّحَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ أَنَّهُ كَانَ بِحَيْثُ لَا يُشْكِلُ عَلَى النَّاظِرِ أَنَّهُ رَفْعٌ يَجُوزُ وَصَحَّحَ صَاحِبُ الْمُحِيطِ أَنَّهُ يَكْتَفِي بِأَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الرَّفْعِ، وَالرِّوَايَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِقْدَارَ مَا يَمُرُّ الرِّيحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ جَازَ وَلَمْ أَرَ مَنْ صَحَّحَهَا وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فِي الْكَافِي أَنَّهَا تَعُودُ إلَى الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ الْمُصَحَّحَةِ فِي الْمُحِيطِ وَاخْتَارَهَا فِيهِ وَذَكَرَ أَنَّهَا الْقِيَاسُ لِتَعَلُّقِ الرُّكْنِيَّةِ بِالْأَدْنَى فِي سَائِرِ الْأَرْكَانِ
(قَوْلُهُ وَكَبَّرَ وَسَجَدَ مُطْمَئِنًّا) وَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُ الطُّمَأْنِينَةِ (قَوْلُهُ وَكَبَّرَ لِلنُّهُوضِ بِلَا اعْتِمَادٍ وَقُعُودٍ) لِحَدِيثِ أَبِي دَاوُد «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَعْتَمِدَ الرَّجُلُ عَلَى يَدَيْهِ إذَا نَهَضَ فِي الصَّلَاةِ» ، وَفِي حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٌ فِي صِفَةِ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَإِذَا نَهَضَ نَهَضَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَاعْتَمَدَ عَلَى فَخْذَيْهِ» وَلِحَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَنْهَضُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ إنَّ عَلَيْهِ الْعَمَلَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ أَنَّهُ «رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا كَانَ فِي وِتْرٍ مِنْ صَلَاتِهِ لَمْ يَنْهَضْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدًا» فَمَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الْكِبَرِ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ وَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا الْحَمْلَ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ، وَقَدْ «قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِمَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُفَارِقَهُ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَلَمْ يُفَصِّلْ فَكَانَ الْحَدِيثُ حُجَّةً لِلشَّافِعِيِّ فَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَعْلِيمِ الْجَوَازِ فَلِذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ فِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ إنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِي الْأَفْضَلِيَّةِ حَتَّى لَوْ فَعَلَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَنَا اهـ.
وَكَذَا تَرْكُ الِاعْتِمَادِ مُسْتَحَبٌّ لِمَنْ لَيْسَ بِهِ عُذْرٌ عِنْدَنَا عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرُ كَثِيرٍ مِنْ الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ قَالَ الْوَبَرِيُّ لَا بَأْسَ يَعْتَمِدُ بِرَاحَتَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ عِنْدَ النُّهُوضِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْعُذْرِ وَعَدَمِهِ وَمِثْلُهُ مَا فِي الْمُحِيطِ عَنْ الطَّحَاوِيِّ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَعْتَمِدَ بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ شَيْخًا كَانَ أَوْ شَابًّا، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
ــ
[منحة الخالق]
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ يَضَعَانِ عَلَى الْفَخْذِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ
(قَوْلُهُ وَمُقْتَضَى الدَّلِيلِ مِنْ الْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهِ وُجُوبُهَا) قَدْ تَقَدَّمَ فِي تَعْلِيلِ الْأَرْكَانِ نَقْلُهُ عَنْ شَرْحِ الزَّاهِدِيِّ وَالْمُحِيطِ وَالْفَتْحِ وَابْنِ أَمِيرِ حَاجٍّ، وَأَنَّهُ هُوَ الصَّوَابُ (قَوْلُهُ فَقَدْ أَحْسَنَ لَمْ يَنْهَهُ عَنْ الِاسْتِغْفَارِ إلَخْ) أَقُولُ: وَفِي عَدَمِ نَهْيِهِ عَنْهُ أَشَارَ إلَى أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ لَمْ يُكْرَهْ إذْ لَوْ كُرِهَ لَكَانَ الْأَوْلَى النَّهْيُ كَمَا نَهَى عَنْ الْقِرَاءَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَهَذَا نَظِيرُ التَّسْمِيَةِ بَيْنَ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ فَإِنَّهَا لَا تُسَنُّ مَعَ أَنَّهُ لَوْ أَتَى لَا يُكْرَهُ، وَحَيْثُ قُلْنَا بِعَدَمِ الْكَرَاهَةِ فَيَنْبَغِي بِغَيْرِ حَالَةِ الْجَمَاعَةِ إذَا لَزِمَ مِنْهُ تَطْوِيلُ الصَّلَاةِ وَيَنْبَغِي بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنْ يُنْدَبَ الدُّعَاءُ بِالْمَغْفِرَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِإِبْطَالِهِ الصَّلَاةَ بِتَرْكِهِ عَامِدًا وَلَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ، لَكِنْ صَرَّحُوا بِاسْتِحْبَابِ مُرَاعَاةِ الْخِلَافِ وَهَذَا مِنْهُ كَمَا لَا يَخْفَى، نَعَمْ، لَوْ كَانَ الدُّعَاءُ الْمَذْكُورُ مَنْهِيًّا عَنْهُ عِنْدَنَا لَا تُسْتَحَبُّ الْمُرَاعَاةُ لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهَا مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ الْمَذْهَبِ لَكِنَّ ثُبُوتَ الْكَرَاهَةِ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ.
(قَوْلُهُ وَصَحَّحَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ) قَالَ الرَّمْلِيُّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّ الرِّوَايَةَ الثَّانِيَةَ تَعُودُ إلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى إذْ بِكَوْنِهِ إلَى الْقُعُودِ أَقْرَبُ، يَزُولُ الْإِشْكَالُ عَلَى النَّاظِرِ أَنَّهُ رَفَعَ فَيَكُونُ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ فَقَطْ، وَقَدْ اقْتَصَرَ مَثَلًا مِسْكِينٌ عَلَى نَقْلِ الْأُولَى وَالرَّابِعَةِ فَقَطْ فَفِيهِ إيمَاءٌ لِمَا قُلْنَا تَأَمَّلْ اهـ.
وَفِي النَّهْرِ: وَلَا يَخْفَى قُرْبُ الثَّانِي مِنْ الْأَوَّلِ (قَوْلُهُ فَالَأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَعْلِيمِ الْجَوَازِ) قَدْ يُقَالُ: يُنَافِي ذَلِكَ الْحَمْلَ «قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِمَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ صَلُّوا» إلَخْ، وَفِي النَّهْرِ: أَقُولُ: لَا تَنَافِيَ بَيْنَ مَا فِي الْهِدَايَةِ وَمَا قَالَهُ الْحَلْوَانِيُّ بِوَجْهٍ إذْ الْمُدَّعَى طَلَبُ النُّهُوضِ وَتَرْكُهُ يُوجِبُ خِلَافَ الْأَوْلَى، وَهُوَ مَرْجِعٌ لَا بَأْسَ بِهِ فِي أَغْلَبِ اسْتِعْمَالِهِ وَلَا يُنَافِيه مَا فِي الْمِعْرَاجِ أَنَّ جَلْسَةَ الِاسْتِرَاحَةِ مَكْرُوهَةٌ عِنْدَنَا إذْ الْمُرَادُ بِهَا التَّنْزِيهُ، وَكَذَا قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَعْتَمِدَ إلَخْ فَقَوْلُهُ فِي الْبَحْرِ الْأَوْجَهُ أَنْ يَكُونَ سُنَّةً فَيُكْرَهُ تَرْكُهُ مَمْنُوعٌ اهـ.
وَالْعَجَبُ أَنَّهُ قَدَّمَ ذَلِكَ قَرِيبًا عِنْدَ قَوْلِ الْمَتْنِ: أَوْ بِكَوْرِ عِمَامَتِهِ، مِنْ أَنَّ مَرْجِعَ خِلَافِ الَأَوْلَى كَلَا بَأْسَ إلَى التَّنْزِيهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute