للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فِي قَوْلِهِ كَمَا صَلَّيْت إمَّا رَاجِعٌ لِآلِ مُحَمَّدٍ وَإِمَّا لِأَنَّ الْمُشَبَّهَ بِهِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ أَعْلَى مِنْ الْمُشَبَّهِ أَوْ مُسَاوِيًا بَلْ قَدْ يَكُونُ أَدْنَى مِثْلَ قَوْله تَعَالَى {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} [النور: ٣٥] وَسَبَبُ وُقُوعِهِ كَوْنُ الْمُشَبَّهِ بِهِ مَشْهُورًا فَهُوَ مِنْ بَابِ إلْحَاقِ غَيْرِ الْمَشْهُورِ بِالْمَشْهُورِ لَا النَّاقِصِ بِالْكَامِلِ وَالْوَاقِعُ أَنَّ الْقَدْرَ الْحَاصِلَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَآلِهِ أَزْيَدُ مِمَّا حَصَلَ لِغَيْرِهِ وَالنُّكْتَةُ فِي تَخْصِيصِ سَيِّدِنَا إبْرَاهِيمَ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ إمَّا لِسَلَامِهِ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ لِدُعَائِهِ بِقَوْلِهِ: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ، أَوْ لِأَنَّهُ سَمَّانَا الْمُسْلِمِينَ وَسَمَّاهُ اللَّهُ أَبًا لِلْمُسْلِمِينَ وَحَسُنَ الْخَتْمُ بِ " إنَّكَ " حَمِيدٌ مَجِيدٌ؛ لِأَنَّ الدَّاعِيَ يُشْرَعُ لَهُ أَنْ يَخْتِمَ دُعَاءَهُ بِاسْمٍ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى مُنَاسِبٍ لِلْمَطْلُوبِ كَمَا عُلِمَ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ، وَالصَّلَاةُ وَالتَّبْرِيكُ عَلَيْهِ يَشْتَمِلُ عَلَى الْحَمْدِ وَالْمَجْدِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى ثَنَاءِ اللَّهِ وَتَكْرِيمِهِ وَرَفْعِ الذِّكْرِ لَهُ فَكَأَنَّ الْمُصَلِّيَ يَطْلُبُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَزِيدَهُ فِي حَمْدِهِ وَمَجْدِهِ فَنَاسَبَ أَنْ يَخْتِمَ بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ وَالْحِكْمَةُ فِي أَنَّ الْعَبْدَ يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُصَلِّيَ وَلَا يُصَلِّيَ بِنَفْسِهِ مَعَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالصَّلَاةِ: قُصُورُهُ عَنْ الْقِيَامِ بِهَذَا الْحَقِّ كَمَا يَنْبَغِي، فَالْمُرَادُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْآيَةِ سُؤَالُهَا فَالْمُصَلِّي فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَنِسْبَتُهَا إلَى الْعَبْدِ مَجَازٌ، وَفِي مُنْيَةِ الْمُصَلِّي وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ قَالَ: وَلَا يَقُولُ ارْحَمْ مُحَمَّدًا وَأَكْثَرُ الْمَشَايِخِ عَلَى أَنَّهُ يَقُولُهُ لِلتَّوَارُثِ اهـ.

قَالَ السَّرَخْسِيُّ لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْأَثَرَ وَرَدَ بِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَلِأَنَّ أَحَدًا وَإِنْ جَلَّ قَدْرُهُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَصَحَّحَهُ الشَّارِحُ وَمَحَلُّ الْخِلَافِ فِي الْجَوَازِ وَعَدَمِهِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا يُقَالُ مَضْمُومًا إلَى الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ كَمَا أَفَادَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ حَجَرٍ فَلِذَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ ابْتِدَاءً رَحْمَةُ اللَّهِ، وَمِنْ الْعَجِيبِ مَا وَقَعَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ فِي آخِرِ بَابِ الْوِتْرِ وَالتَّرَاوِيحِ حَيْثُ قَالَ: وَإِذَا صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْقُنُوتِ قَالُوا لَا يُصَلِّي فِي الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ، وَكَذَا لَوْ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى سَاهِيًا لَا يُصَلِّي فِي الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ اهـ.

وَكَانَ وَجْهُهُ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ لَا تَتَكَرَّرُ فَإِذَا أَتَى بِهَا مَرَّةً، وَلَوْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا لَا تُعَادُ لَكِنَّ هَذَا فِي الثَّانِي مُمْكِنٌ، وَأَمَّا فِي الْقُنُوتِ فَالصَّلَاةُ آخِرَهُ مَشْرُوعَةٌ كَمَا سَيَأْتِي فَالْحَقُّ خِلَافُهُ، وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا مَا فِي الْمُجْتَبَى: مِنْ أَنَّهُ إذَا شَرَعَ فِي التَّشَهُّدِ وَلَمْ يُتِمَّهُ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ

ــ

[منحة الخالق]

الْآيَةَ وَقِيلَ: عَلَى ظَاهِرِهِ وَالْمُرَادُ اجْعَلْ لِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ صَلَاةً بِمِقْدَارِ الصَّلَاةِ لِإِبْرَاهِيمَ وَآلِهِ فَالْمَسْئُولُ مُقَابَلَةُ الْجُمْلَةِ بِالْجُمْلَةِ لِأَنَّ الْمُخْتَارَ مِنْ الْقَوْلِ فِي الْآلِ أَنَّهُمْ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ فَيَدْخُلُ فِي آلِ إبْرَاهِيمَ خَلَائِقُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا يَدْخُلُ فِي آلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبِيٌّ فَطَلَبَ إلْحَاقَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الَّتِي فِيهَا نَبِيٌّ وَاحِدٌ بِتِلْكَ الْجُمْلَةِ الَّتِي فِيهَا خَلَائِقُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَقِيلَ: إنَّ التَّشْبِيهَ وَقَعَ عَلَى الْآلِ لَا عَلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَكَانَ قَوْلُهُ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ مَقْطُوعًا مِنْ التَّشْبِيهِ وَتَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَهُ وَقَوْلُهُ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ كَمَا صَلَّيْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ اهـ.

وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَلِأَهْلِ بَيْتِهِ لِتَتِمَّ النِّعْمَةُ عَلَيْهِمْ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى إبْرَاهِيمَ وَآلِهِ وَقِيلَ سَأَلَ ذَلِكَ لِأُمَّتِهِ وَقِيلَ بَلْ لِيَبْقَى ذَلِكَ لَهُ دَائِمًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيَجْعَلَ لَهُ بِهِ لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ كَإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَفِي الْمَوَاهِبِ اللَّدُنْيَّةِ بَعْدَ أَنْ أَسْهَبَ فِي الْأَجْوِبَةِ قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ بَعْدَ أَنْ زَيَّفَ أَكْثَرَ الْأَجْوِبَةِ إلَّا تَشْبِيهَ الْمَجْمُوعِ بِالْمَجْمُوعِ: وَأَحْسَنُ مِنْهُ أَنْ يُقَالَ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ آلِ إبْرَاهِيمَ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: ٣٣] قَالَ: مُحَمَّدٌ مِنْ آلِ إبْرَاهِيمَ فَكَأَنَّهُ أَمَرَنَا أَنْ نُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ خُصُوصًا بِقَدْرِ مَا صَلَّيْنَا عَلَيْهِ مَعَ إبْرَاهِيمَ وَآلِ إبْرَاهِيمَ عُمُومًا، فَيَحْصُلُ لِآلِهِ مَا يَلِيقُ بِهِمْ وَيَبْقَى الْبَاقِي كُلُّهُ لَهُ وَذَلِكَ الْقَدْرُ أَزْيَدُ مِمَّا لِغَيْرِهِ مِنْ آلِ إبْرَاهِيمَ وَتَظْهَرُ حِينَئِذٍ فَائِدَةُ التَّشْبِيهِ وَأَنَّ الْمَطْلُوبَ لَهُ بِهَذَا اللَّفْظِ أَفْضَلُ مِنْ الْمَطْلُوبِ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَلْفَاظِ اهـ وَإِذَا أَرَدْت الْمَزِيدَ مِنْ ذَلِكَ فَرَاجِعِ الْمَوَاهِبَ الْمَذْكُورَةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(قَوْلُهُ وَمَحَلُّ الْخِلَافِ فِي الْجَوَازِ وَعَدَمِهِ إنَّمَا هُوَ إلَخْ) قَالَ فِي النَّهْرِ: عِبَارَةُ الشَّارِحِ فِي آخِرِ الْكِتَابِ تَقْتَضِي أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْكُلِّ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: اخْتَلَفُوا فِي التَّرَحُّمِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ ارْحَمْ مُحَمَّدًا قَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ كَالصَّلَاةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَجُوزُ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ مِنْ أَشْوَقِ الْعِبَادِ إلَى مَزِيدٍ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَاخْتَارَهُ السَّرَخْسِيُّ لِوُرُودِهِ فِي الْأَثَرِ وَلَا عَتَبَ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ، وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَنَا أَقُولُ: ارْحَمْ مُحَمَّدًا لِلتَّوَارُثِ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِتَفْسِيرِهِمْ الصَّلَاةَ بِالرَّحْمَةِ وَاللَّفْظَانِ إذَا اسْتَوَيَا فِي الدَّلَالَةِ صَحَّ قِيَامُ أَحَدِهِمَا مَقَامَ الْآخَرِ وَلِذَا أَقَرَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْأَعْرَابِيَّ عَلَى قَوْلِهِ اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>