للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يُشْرِكْهُمْ فِيمَا طَلَبَهُ لِنَفْسِهِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ أَرَادَ الْمَغْفِرَةَ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ جَمِيعِ ذُنُوبِهِ فَهُوَ الْمُحَرَّمُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَتَعَقَّبَهُ الْكَرْمَانِيُّ شَارِحُ الْبُخَارِيِّ وَرَدَّهُ فِي شَرْحِ مُنْيَةِ الْمُصَلِّي وَأَطَالَ الْكَلَامَ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَكُونُ عَاصِيًا بِالدُّعَاءِ لِلْكَافِرِ بِالْمَغْفِرَةِ غَيْرَ عَاصٍ بِالدُّعَاءِ بِالْمَغْفِرَةِ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الْعَفْوِ عَنْ الْمُشْرِكِ عَقْلًا، قِيلَ بِالْجَوَازِ؛ لِأَنَّ الْخُلْفَ فِي الْوَعِيدِ كَرَمٌ فَيَجُوزُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى خِلَافِهِ كَمَا ذَكَرَهُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ، وَقَدْ قَالَ الْعَلَّامَةُ زَيْنُ الْعَرَبِ فِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ مِنْ بَحْثِ الْإِيمَانِ: لَيْسَ بِحَتْمٍ عِنْدَنَا أَيْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ أَحَدٌ مِنْ الْأُمَّةِ بَلْ الْعَفْوُ عَنْ الْجَمِيعِ مَرْجُوٌّ لِمُوجَبِ قَوْله تَعَالَى {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: ٤٨] وقَوْله تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: ٥٣] اهـ.

فَيَجُوز أَنْ يَطْلُبَ لِلْمُؤْمِنِينَ لِفَرْطِ شَفَقَتِهِ عَلَى إخْوَانِهِ الْأَمْرَ الْجَائِزَ الْوُقُوعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاقِعًا، ثُمَّ فِي تَقْدِيمِ الصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الدُّعَاءِ بَيَانٌ لِلسُّنَّةِ كَمَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمَرْوِيِّ فِي سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِالْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ، ثُمَّ بِالصَّلَاةِ عَلَيَّ، ثُمَّ بِالدُّعَاءِ»

وَلَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ كَلَامَ النَّاسِ هُنَا وَبَيَّنَهُ فِي الْكَافِي فَقَالَ: وَفَسَّرُوهُ بِمَا لَا يَسْتَحِيلُ سُؤَالُهُ مِنْ الْعِبَادِ نَحْوَ أَعْطِنِي كَذَا وَزَوِّجْنِي امْرَأَةً وَمَا لَا يُشْبِهُ كَلَامَهُمْ مَا يَسْتَحِيلُ سُؤَالُهُ مِنْهُمْ نَحْوَ اغْفِرْ لِي؛ لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ} [آل عمران: ١٣٥] اهـ.

وَهَكَذَا ذَكَرَهُ الْجُمْهُورُ، وَيُشْكِلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَغْفِرَةَ كَمَا ذَكَرُوهُ تَخْتَصُّ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَهُمْ فَصَّلُوا فَقَالُوا: لَوْ قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَمِّي أَوْ لِخَالِي تَفْسُدُ، ذَكَرَهُ فِي الْخُلَاصَةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ وَذَكَرَ فِيهَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ لَا تَفْسُدُ وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا وَحَكَى الْخِلَافَ فِيمَا إذَا قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَخِي قَالَ الْحَلْوَانِيُّ لَا تَفْسُدُ، وَقَالَ ابْنُ الْفَضْلِ تَفْسُدُ وَصَحَّحَ فِي الْمُحِيطِ الْأَوَّلَ، وَوَجْهُهُ: أَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ حِكَايَةً عَنْ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي} [الأعراف: ١٥١] ، وَفِي الذَّخِيرَةِ لَوْ قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِزَيْدٍ أَوْ لِعَمْرٍو تَفْسُدُ

ــ

[منحة الخالق]

(قَوْلُهُ وَرَدَّهُ فِي شَرْحِ مُنْيَةِ الْمُصَلِّي) أَيْ لِلْعَلَّامَةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَمِيرِ حَاجٍّ قَالَ الْمَدَارِيُّ فِي حَوَاشِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: الْحَقُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ أَمِيرِ حَاجٍّ بَعْدَ كَلَامٍ طَوِيلٍ حَيْثُ قَالَ: ثُمَّ يَتَلَخَّصُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ الْمَدَارَ فِي جَوَازِ الدُّعَاءِ الْمَذْكُورِ جَوَازُ التَّخْصِيصِ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ بِوَضْعِهِ اللُّغَوِيِّ مِنْ الْعُمُومِ فِي نُصُوصِ الْوَعِيدِ وَلَا بِدَعَ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ: فَيُقَالُ مِثْلُهُ فِي الْوَعْدِ، قُلْنَا: لَا ضَيْرَ فِي الْتِزَامِهِ لِعَدَمِ الْمُوجِبِ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ مِنْ الْقَوْلِ بِهِ فَإِنَّهُ كَمَا دَخَلَ التَّخْصِيصُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: ٨] بِمَنْ عُفِيَ عَنْهُ تَفَضُّلًا أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَلَمْ يَرَ شَرًّا مَعَ عَمَلِهِ لَهُ فَكَذَا دَخَلَ فِي قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: ٧] بِمَنْ حَبِطَ عَمَلُهُ بِرَدِّهِ فَلَمْ يَرَ خَيْرًا مَعَ عَمَلِهِ لَهُ، وَحَاشَا اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُرَادَ بِجَوَازِ الْخُلْفِ فِي الْوَعِيدِ أَنْ لَا يَقَعَ عَذَابُ مَنْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى الْإِخْبَارَ بِعَذَابِهِ فَإِنَّهُ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى قَطْعًا كَمَا أَنَّ عَدَمَ وُقُوعِ نَعِيمِ مَنْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى الْإِخْبَارَ عَنْهُ بِالنَّعِيمِ مُحَالٌ عَلَيْهِ قَطْعًا، وَكَيْفَ لَا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا} [النساء: ١٢٢] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: ٨٧] {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا} [الأنعام: ١١٥] {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الأنعام: ١١٥] وَحِينَئِذٍ فَلْيُحْمَلْ قَوْلُ ابْنِ نَبَاتَةَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي إذَا وَعَدَ وَفَّى وَإِذَا أَوْعَدَ تَجَاوَزَ وَعَفَا، عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَعِيدِ صُورَةُ الْعُمُومِ وَبِالْوَعْدِ مَنْ أُرِيدَ بِالْخِطَابِ، ثُمَّ حَيْثُ كَانَ الْمُرَادُ هَذَا فَالْأَوْجَهُ تَرْكُ إطْلَاقِ جَوَازِ الْخُلْفِ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ دَفْعًا لِإِيهَامِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ هَذَا الْمُحَالُ وَإِنَّمَا وَافَقْنَاهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِشُهْرَةِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَهُمْ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ مِنْ كُلِّ مَا لَيْسَ فِيهِ رِضَاهُ هَذَا كَلَامُهُ.

إذَا عَرَفْت هَذَا فَمَا فِي الشَّرْحِ أَيْ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ الدُّعَاءُ بِالْمَغْفِرَةِ لِكُلِّ الْمُؤْمِنِينَ كُلَّ ذُنُوبِهِمْ تَبَعًا لِلْبَحْرِ غَيْرُ صَحِيحٍ وَلَا يَجُوزُ اعْتِقَادُهُ اهـ.

قُلْتُ: وَمَا نَقَلَهُ هُنَا عَنْ ابْنِ أَمِيرِ حَاجٍّ قَدْ رَأَيْته مُلَخَّصًا فِي شَرْحِهِ عَلَى التَّحْرِيرِ الْأُصُولِيِّ لِشَيْخِهِ الْمُحَقِّقِ ابْنِ الْهُمَامِ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ (قَوْلُهُ لَيْسَ بِحَتْمٍ عِنْدَنَا إلَخْ) أَقُولُ: ظَاهِرُ صَدْرِ الْكَلَامِ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ شَرْعًا وَظَاهِرُ قَوْلِهِ آخِرًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاقِعًا أَنَّهُ جَائِزٌ عَقْلًا لَا شَرْعًا، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الثَّانِيَ فَكَيْفَ يَجُوزُ مَا خَالَفَ الشَّرْعَ؟ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ مُشْكِلٌ جِدًّا إذْ نَقَلَ غَيْرُ وَاحِدٍ إجْمَاعَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نُفُوذِ الْوَعِيدِ فِي بَعْضِ الْعُصَاةِ مِنْ الْمُوَحِّدِينَ، وَهُوَ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ، وَلَكِنْ وَقَعَ التَّرَدُّدُ فِي أَنَّهُ هَلْ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ الْكَبَائِرِ لَا بُدَّ مِنْ عِقَابِ طَائِفَةٍ مِنْ مُرْتَكِبِيهِ أَوْ يَكْفِي فِي أَدَاءِ الْوَاجِبِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ نَوْعَ الْكَبَائِرِ يُعَذَّبُ طَائِفَةٌ مِنْ مُرْتَكِبِيهَا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى عُمُومِ أَنْوَاعِهَا وَلَا خُصُوصٍ بَعْضِهَا، فِيهِ تَرَدُّدٌ كَمَا ذَكَرَهُ الْأَبِيُّ وَعِبَارَتُهُ عَلَى مَا فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ لِلْبُرْهَانِ إبْرَاهِيمَ اللَّقَانِيِّ عَلَى جَوْهَرَتِهِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نُفُوذِ الْوَعِيدِ فِي طَائِفَةٍ مِنْ الْعُصَاةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَعَّدَهُمْ وَكَلَامُهُ تَعَالَى صَدَقَ فَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ، ثُمَّ يَبْقَى النَّظَرُ هَلْ الْمُرَادُ طَائِفَةٌ مِنْ جَمِيعِ الْعُصَاةِ أَوْ طَائِفَةٌ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَعَّدَ كُلَّ صِنْفٍ عَلَى حِدَتِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْقَاضِي هُنَا انْتَهَتْ، ثُمَّ نَقَلَ اللَّقَانِيُّ الْإِجْمَاعَ عَنْ النَّوَوِيِّ أَيْضًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>