للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَهَذَا صَرِيحٌ فِي اسْتِعْمَالِ جَمِيعِ الْمَاءِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ بِالِاغْتِسَالِ فِيهِ.

وَقَالَ الْإِمَامُ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ فِي الْأَسْرَارِ: فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ» إلَى آخِرِهِ قَالَ مَنْ قَالَ إنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ طَاهِرٌ طَهُورٌ لَا يَجْعَلُ الِاغْتِسَالَ فِيهِ حَرَامًا، وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ؛ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَهُ أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ إذَا وَقَعَ فِي مَاءِ آخَرَ لَمْ يُفْسِدْهُ حَتَّى يَغْلِبَ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ اللَّبَنِ يَقَعُ فِيهِ وَقَدْرُ مَا يُلَاقِي بَدَنَ الْمُسْتَعْمَلِ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا، وَذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُغْتَسَلُ فِيهِ عَادَةً يَكُونُ أَقَلَّ مِمَّا فَضُلَ عَنْ مُلَاقَاةِ بَدَنِهِ فَلَا يَفْسُدُ وَيَبْقَى طَهُورًا لِذَلِكَ وَلَا يَحْرُمُ فِيهِ الِاغْتِسَالُ إلَّا أَنْ يَحْكُمَ بِنَجَاسَةِ الْغُسَالَةِ فَيَفْسُدُ الْكُلُّ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الْغُسَالَةِ كَقَطْرَةِ خَمْرٍ تَقَعُ فِي حُبٍّ إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا يَقُولُ لَمَّا اغْتَسَلَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ صَارَ الْكُلُّ مُسْتَعْمَلًا حُكْمًا اهـ.

فَهَذِهِ الْعِبَارَةُ كَشَفَتْ اللَّبْسُ وَأَوْضَحَتْ كُلَّ تَخْمِينٍ وَحَدْسٍ، فَإِنَّهَا أَفَادَتْ أَنَّ مُقْتَضَى مَذْهَبِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِاخْتِلَاطِ الْقَلِيلِ مِنْ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا حَكَمَ بِأَنَّ الْكُلَّ صَارَ مُسْتَعْمَلًا حُكْمًا لَا حَقِيقَةً فَمَا فِي الْبَدَائِعِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ مُقْتَضَى مَذْهَبِ مُحَمَّدٍ عَدَمُ الِاسْتِعْمَالِ إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ بِخِلَافِهِ وَفِي الْخُلَاصَةِ رَجُلٌ تَوَضَّأَ فِي طَسْتٍ ثُمَّ صَبَّ ذَلِكَ الْمَاءَ فِي بِئْرٍ يُنْزَحُ مِنْهُ الْأَكْثَرُ مِنْ عِشْرِينَ دَلْوًا وَمِمَّا صُبَّ فِيهِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يُنْزَحُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ؛ لِأَنَّهُ نَجِسٌ عِنْدَهُمَا. اهـ.

وَهَذَا يُفِيدُ صَيْرُورَةَ مَاءِ الْبِئْرِ مُسْتَعْمَلًا بِصَبِّ الْمَاءِ الْقَلِيلِ الْمُسْتَعْمَلِ عَلَيْهِ فَبِالْأَوْلَى إذَا تَوَضَّأَ فِيهَا أَوْ اغْتَسَلَ قُلْت قَدْ وَقَعَ فِي جَوَازِ الْوُضُوءِ مِنْ الْفَسَاقِي الصِّغَارِ الْمَوْضُوعَةِ فِي الْمَدَارِسِ كَلَامٌ كَثِيرٌ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ الطَّلَبَةِ وَالْأَفَاضِلِ فِي عَصْرِنَا وَقَبْلَهُ وَقَدْ أَلَّفَ الشَّيْخُ الْعَلَّامَةُ قَاسِمٌ فِيهَا رِسَالَةً وَسَمَّاهَا رَفْعَ الِاشْتِبَاهِ عَنْ مَسْأَلَةِ الْمِيَاهِ وَاسْتَدَلَّ فِيهَا بِمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ الْبَدَائِعِ وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ عَصْرِهِ وَأَفْتَى بِهِ وَتَعَقَّبَهُ الْبَعْضُ الْآخَرُ وَأَلَّفَ فِيهَا رِسَالَةً وَسَمَّاهَا زَهْرَ الرَّوْضِ فِي مَسْأَلَةِ الْحَوْضِ وَنَبَّهَ عَلَيْهَا فِي شَرْحِ مَنْظُومَةِ ابْنُ وَهْبَانَ.

وَقَالَ لَا تَغْتَرَّ بِمَا ذَكَرَهُ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ قَاسِمٌ وَاسْتَنَدَ إلَى مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ الْأَسْرَارِ

ــ

[منحة الخالق]

الشَّارِحُ مَعَ النَّصِّ عَلَى مَا اسْتَظْهَرْنَاهُ وَذَلِكَ حَيْثُ قَالَ وَلَوْ أَنَّ الْجُنُبَ اغْتَسَلَ فِي الْبِئْرِ ثُمَّ فِي بِئْرٍ إلَى الْعَشَرَةِ أَوْ أَكْثَرَ تُنَجَّسُ الْمِيَاهُ كُلُّهَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ عَيْنِيَّةٌ أَوْ لَا وَالرَّجُلُ عَلَى حَالِهِ جُنُبٌ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَخْرُجُ مِنْ الْبِئْرِ الثَّالِثَةَ طَاهِرًا وَالْمِيَاهُ الثَّلَاثَةُ يُنْظَرُ فِيهَا إنْ كَانَ عَلَى بَدَنِهِ عَيْنُ النَّجَاسَةِ صَارَ الْمَاءُ نَجِسًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا وَالْمُسْتَعْمَلُ عِنْدَهُ طَاهِرٌ، وَأَمَّا الرَّابِعُ وَمَا وَرَاءَهُ إنْ وُجِدَتْ مِنْهُ النِّيَّةُ صَارَ مُسْتَعْمَلًا، وَإِلَّا فَلَا يَعْنِي إذَا لَمْ تُوجَدْ النِّيَّةُ فَالْمِيَاهُ طَاهِرَةٌ اهـ.

وَظَاهِرُ قَوْلِهِ اغْتَسَلَ أَنَّ الْغُسْلَ فِي الثَّلَاثِ الْأُوَلِ كَانَ بِنِيَّةٍ وَوَجْهُ اسْتِعْمَالِهَا سُقُوطُ الْفَرْضِ بِهَا مَعَ الْقُرْبَةِ وَسُنِّيَّةُ التَّثْلِيثِ، وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ مَا بَعْدَهَا فَيَتَوَقَّفُ عَلَى النِّيَّةِ أَيْضًا لِحُصُولِ الْقُرْبَةِ بِتَجْدِيدِ الْغُسْلِ لِاخْتِلَافِ الْمَجْلِسِ وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ كَالْوُضُوءِ فَلْيُتَأَمَّلْ وَلَا يَتَنَجَّسُ الرَّابِعُ وَمَا بَعْدَهُ لَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ لِطَهَارَتِهِ بِخُرُوجِهِ مِنْ الثَّالِثَةِ

(قَوْلُهُ: فَهَذِهِ الْعِبَارَةُ كَشَفَتْ اللَّبْسَ إلَخْ) قَالَ أَخُوهُ الْمُحَقِّقُ فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ فِي هَوَامِشِ هَذَا الْكِتَابِ عَلَى مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ نَعَمْ كَشَفَتْ اللَّبْسَ مِنْ حَيْثُ آخِرُهَا إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا يَقُولُ لَمَّا اغْتَسَلَ بِالْمَاءِ الْقَلِيلِ صَارَ الْكُلُّ مُسْتَعْمَلًا حُكْمًا فَلَنَا صُورَتَانِ صُورَةُ وُقُوعِ مَاءٍ مُسْتَعْمَلٍ فِي مَاءٍ غَيْرِ مُسْتَعْمَلٍ فَيُعْتَبَرُ غَلَبَةُ الْمَاءِ الَّذِي لَيْسَ بِمُسْتَعْمَلٍ وَالصُّورَةُ الثَّانِيَةُ مَاءٌ وَاحِدٌ تَوَضَّأَ بِهِ شَخْصٌ أَوْ أَدْخَلَ يَدَهُ لِحَاجَةٍ صَارَ مُسْتَعْمَلًا كُلُّهُ حُكْمًا كَمَا رَأَيْت اهـ.

(قَوْلُهُ: فَمَا فِي الْبَدَائِعِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ مُقْتَضَى مَذْهَبِ مُحَمَّدٍ عَدَمُ الِاسْتِعْمَالِ) أَيْ حَقِيقَةً يَعْنِي أَنَّ صَاحِبَ الْبَدَائِعِ نَسَبَ إلَى مُحَمَّدٍ عَدَمَ الِاسْتِعْمَالِ بِنَاءً عَلَى مَا اقْتَضَاهُ مَذْهَبُهُ مِنْ أَنَّ الْمُسْتَعْمَلَ لَا يُفْسِدُ الْمَاءَ مَا لَمْ يَغْلِبْهُ أَوْ يُسَاوِهِ لَكِنَّ مُحَمَّدًا مَا قَالَ بِذَلِكَ الَّذِي اقْتَضَاهُ مَذْهَبُهُ بَلْ قَالَ فِي هَذِهِ الصُّورَةُ أَنَّهُ صَارَ مُسْتَعْمَلًا حُكْمًا كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ عِبَارَةُ الدَّبُوسِيِّ.

(قَوْلُهُ: وَمِمَّا صُبَّ فِيهِ) أَيْ وَيُنْزَحُ مَا ذُكِرَ أَيْضًا مِنْ بِئْرٍ أُخْرَى صُبَّ فِيهَا دَلْوٌ مَثَلًا مِنْ هَذِهِ الْبِئْرِ كَذَا قِيلَ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ يُنْظَرُ فِي الْعِشْرِينَ دَلْوًا وَفِي الْمَصْبُوبِ فَأَيُّهُمَا أَكْثَرُ يُنْزَحُ بِدَلِيلِ مَا سَيَأْتِي فِي أَحْكَامِ الْآبَارِ لَوْ وَقَعَتْ الْفَأْرَةُ فِي جُبٍّ فَأُرِيقَ الْمَاءُ فِي الْبِئْرِ قَالَ مُحَمَّدٌ يُنْزَحُ الْأَكْثَرُ مِنْ الْمَصْبُوبَةِ وَمِنْ عِشْرِينَ دَلْوًا، وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْفَأْرَةَ لَوْ وَقَعَتْ فِيهَا يُنْزَحُ عِشْرُونَ فَكَذَا إذَا صُبَّ فِيهَا مَا وَقَعَ فِيهِ إلَّا إذَا زَادَ الْمَصْبُوبُ عَلَى ذَلِكَ فَتُنْزَحُ الزِّيَادَةُ مَعَ الْعِشْرِينَ اهـ.

(قَوْلُهُ: وَنَبَّهَ عَلَيْهَا فِي شَرْحِ مَنْظُومَةِ ابْنِ وَهْبَانَ إلَخْ) ، وَهُوَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الشِّحْنَةِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى مَسْأَلَةِ الْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ إذَا وَقَعَ فِي بِئْرٍ مَا نَصُّهُ وَاَلَّذِي تَحَرَّرَ عِنْدِي أَنَّهُ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِيهَا بِاخْتِلَافِ أُصُولِ أَئِمَّتِنَا فِيهِ وَالتَّحْقِيقُ النَّزْحُ لِلْجَمِيعِ عِنْدَ الْإِمَامِ عَلَى الْقَوْلِ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ وَقِيلَ أَرْبَعُونَ عِنْدَهُ وَتَحْقِيقُ مَذْهَبِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَسْلُبُهُ الطَّهُورِيَّةُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عَنْ الْإِمَامِ وَالثَّانِي وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى يُنْزَحُ مِنْهُ عِشْرُونَ لِيَصِيرَ طَهُورًا، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ اعْتِبَارِ الضَّرُورَةِ

أَمَّا لَوْ اُعْتُبِرَتْ الضَّرُورَةُ وَدَفْعُ الْحَرَجِ فَلَا يَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ تَتَحَقَّقُ الضَّرُورَةُ فِي الِانْغِمَاسِ فِي الْمَاءِ أَوْ إدْخَالِ الْعُضْوِ فِيهِ وَاعْتِبَارِ الضَّرُورَةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي الصُّغْرَى وَغَيْرهَا وَلَا تَغْتَرَّ بِمَا ذَكَرَهُ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ زَيْنُ الدِّينِ قَاسِمٌ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>