وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ قَدَّمَ الْعِشَاءَ عَلَى الْمَغْرِبِ بِمُزْدَلِفَةَ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ ثُمَّ يُعِيدُ الْعِشَاءَ فَإِنْ لَمْ يُعِدْ الْعِشَاءَ حَتَّى انْفَجَرَ الصُّبْحُ عَادَ الْعِشَاءُ إلَى الْجَوَازِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الظُّهْرِ ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا خَمْسًا، وَهُوَ ذَاكِرٌ لِلْمَتْرُوكَةِ لَمْ يَجُزْ فَإِنْ صَلَّى السَّادِسَةَ عَادَ إلَى الْجَوَازِ
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَشَايِخَ صَرَّحُوا فِي كُتُبِهِمْ بِعَدَمِ الْجَوَازِ، وَهُوَ يُوهِمُ عَدَمَ الصِّحَّةِ، وَلَيْسَ بِمُرَادٍ بَلْ الْمُرَادُ عَدَمُ الْحِلِّ، وَلِهَذَا صَرَّحُوا بِالْإِعَادَةِ وَلَوْ كَانَتْ بَاطِلَةً لَكَانَ أَدَاءً إنْ كَانَ فِي الْوَقْتِ وَقَضَاءً إنْ كَانَ خَارِجَهُ، وَلَوْ صَرَّحُوا بِعَدَمِ الْحِلِّ لَزَالَ الِاشْتِبَاهُ وَحَاصِلُ دَلِيلِهِمْ الْمُقْتَضِي لِعَدَمِ الْحِلِّ أَنَّهُ ظَنِّيٌّ مُفِيدٌ تَأْخِيرَ وَقْتِ الْمَغْرِبِ فِي خُصُوصِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ لِيُتَوَصَّلَ إلَى الْجَمْعِ بِمُزْدَلِفَةَ فَعَمِلْنَا بِمُقْتَضَاهُ مَا لَمْ يَلْزَمْ تَقْدِيمُ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ وَهُوَ الدَّلِيلُ الْمُوجِبُ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى الْوَقْتِ فَقَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَمْ يَلْزَمْ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْقَطْعِيِّ، وَبَعْدَهُ انْتَفَى إمْكَانُ تَدَارُكِ هَذَا الْوَاجِبِ، وَتَقَرَّرَ الْمَأْثَمُ إذْ لَوْ وَجَبَتْ الْإِعَادَةُ بَعْدَهُ كَانَ حَقِيقَتُهُ عَدَمَ الصِّحَّةِ فِيمَا هُوَ مُؤَقَّتٌ قَطْعًا، وَفِيهِ التَّقْدِيمُ الْمُمْتَنِعُ وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَقَدْ يُقَالُ بِوُجُوبِ الْإِعَادَةِ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ أَدَّاهَا قَبْلَ وَقْتِهَا الثَّابِتِ بِالْحَدِيثِ فَتَعْلِيلُهُ بِأَنَّهُ لِلْجَمْعِ فَإِذَا فَاتَ سَقَطَتْ الْإِعَادَةُ تَخْصِيصٌ لِلنَّصِّ بِالْمَعْنَى الْمُسْتَنْبَطِ مِنْهُ، وَمَرْجِعُهُ إلَى تَقْدِيمِ الْمَعْنَى عَلَى النَّصِّ
ــ
[منحة الخالق]
فِيهِ تَفْوِيتَ التَّرْتِيبِ وَهُوَ فَرْضٌ يَفُوتُ الْجَوَازُ بِفَوْتِهِ كَتَرْتِيبِ الْوِتْرِ عَلَى الْعِشَاءِ فَإِنْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَهُوَ مُشْكِلٌ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى سَاقِطِ التَّرْتِيبِ أَوْ عَلَى عَوْدِهَا إلَى الْجَوَازِ إذَا صَلَّى خَمْسًا بَعْدَهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَقْتُهُمَا وَقْتُ الْعِشَاءِ فَهُمَا صَلَاتَانِ اجْتَمَعَتَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْوِتْرِ وَالْعِشَاءِ أَنَّهُ يَجِبُ التَّرْتِيبُ بَيْنَهُمَا قَالُوا هُنَاكَ وَلَا يُقَدَّمُ الْوِتْرُ عَلَى الْعِشَاءِ لِلتَّرْتِيبِ لَا لِأَنَّ وَقْتَ الْوِتْرِ لَمْ يَدْخُلْ حَتَّى لَوْ نَسِيَ الْعِشَاءَ وَصَلَّى الْوِتْرَ جَازَ لِسُقُوطِ التَّرْتِيبِ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ فَرْضٌ عِنْدَهُ فَصَارَ كَفَرْضَيْنِ اجْتَمَعَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ كَالْقَضَاءَيْنِ أَوْ الْقَضَاءِ وَالْأَدَاءِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي تَقْدِيمِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ عَلَى الْمَغْرِبِ هُنَا كَذَلِكَ إذْ لَا مُوجِبَ لِسُقُوطِ التَّرْتِيبِ وَبِانْفِجَارِ الصُّبْحِ لَمْ تَدْخُلْ الْفَوَائِتُ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ. اهـ. .
قُلْت: وَهَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ بَلْ الْمُتَبَادَرُ سُقُوطُ التَّرْتِيبِ هُنَا أَيْضًا وَلِذَا قَالَ فِي حَوَاشِي مِسْكِينٍ تُزَادُ هَذِهِ عَلَى مَا يَسْقُطُ بِهِ التَّرْتِيبُ (قَوْلُهُ وَهُوَ يُوهِمُ عَدَمَ الصِّحَّةِ) قَالَ فِي النَّهْرِ أَنَّى يُتَوَهَّمُ عَدَمُ الصِّحَّةِ لِلصَّلَاةِ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا اهـ.
وَتَأَمَّلْهُ مَعَ مَا مَرَّ عَنْ السِّرَاجِ وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ «الصَّلَاةُ أَمَامَك» أَيْ وَقْتَهَا أَفَلَا يُتَوَهَّمُ مَعَهُ ذَلِكَ، وَقَالَ الرَّمْلِيُّ كَيْفَ لَا يُتَوَهَّمُ وَالْجَوَازُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الصِّحَّةِ وَالْحِلِّ، وَإِذَا قُلْنَا أَنَّى يُتَوَهَّمُ عَدَمُ الصِّحَّةِ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ قُلْنَا أَنَّى يُتَوَهَّمُ عَدَمُ الْحِلِّ بَعْدَ دُخُولِهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ فَالتَّوَهُّمُ هُنَا لَا يُنْكَرُ (قَوْلُهُ لَكَانَ أَدَاءً) أَيْ لَكَانَ فِعْلُهَا ثَانِيًا أَدَاءً إنْ كَانَ فِي الْوَقْتِ إلَخْ.
(قَوْلُهُ وَحَاصِلُ دَلِيلِهِمْ إلَخْ) خَطَرَ لِي هُنَا إشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمُفِيدَ تَأْخِيرَ الْمَغْرِبِ إذَا كَانَ ظَنِّيًّا، وَكَانَ الدَّلِيلُ الْمُوجِبُ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى الْوَقْتِ قَطْعِيًّا لَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُ الْمَغْرِبِ عَنْ وَقْتِهَا الثَّابِتِ بِالْقَطْعِيِّ وَإِلَّا لَزِمَ تَقْدِيمُ الظَّنِّيِّ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِعَدَمِ جَوَازِ تَأْخِيرِهِ بَلْ بِوُجُوبِهِ وَلَا مَحِيصَ حِينَئِذٍ إلَّا بِدَعْوَى عَدَمِ ظَنِّيَّةِ الْحَدِيثِ أَوْ عَدَمِ قَطْعِيَّةِ دَلَالَةِ الْآيَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَتِمُّ قَوْلُهُ فَعَمِلْنَا بِمُقْتَضَاهُ إلَخْ وَبِهِ يَتَأَيَّدُ بَحْثُ الْمُحَقِّقِ ثُمَّ رَأَيْت فِي الْعِنَايَةِ قَالَ مَا نَصُّهُ، وَاعْتَرَضَ بِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ الْآحَادِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَبْطُلَ بِهِ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: ١٠٣] ، وَأَجَابَ شَيْخُ شَيْخِي الْعَلَّامَةُ بِأَنَّهُ مِنْ الْمَشَاهِيرِ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَعَمِلُوا بِهِ فَجَازَ أَنْ يُزَادَ بِهِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَقُولُ: قَوْله تَعَالَى {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: ١٠٣] الْآيَةُ وَنَحْوُهَا لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ قَاطِعَةٌ عَلَى تَعْيِينِ الْأَوْقَاتِ، وَإِنَّمَا دَلَالَتُهَا عَلَى أَنَّ لِلصَّلَاةِ أَوْقَاتًا وَتَعْيِينُهَا ثَبَتَ إمَّا بِحَدِيثِ جِبْرِيلَ أَوْ بِغَيْرِهِ مِنْ الْآحَادِ أَوْ بِفِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ فَجَازَ أَنْ يُعَارِضَهُ خَبَرُ الْوَاحِدِ ثُمَّ يُعْمَلَ بِفِعْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهُوَ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِالْمُزْدَلِفَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَضَاءً فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَقْتَهُ. اهـ.
وَالْأَحْسَنُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ عَدَمَ قَطْعِيَّةِ تَعْيِينِ الْأَوْقَاتِ بَعِيدٌ لِثُبُوتِهِ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَلْ بِنَظْمِ الْقُرْآنِ إذَا فَسَّرَ دُلُوكَ الشَّمْسِ بِغُرُوبِهَا كَمَا فِي السَّعْدِيَّةِ ثُمَّ قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَشَكَّكَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْ أَوْرَدَ إشْكَالًا مِنْ جَانِبِهِ عَلَى صَاحِبَيْهِ بِأَنَّ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ الَّتِي صَلَّاهَا فِي الطَّرِيقِ أَمَّا إنْ وَقَعَتْ صَحِيحَةً أَوْ لَا فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَا تَجِبُ الْإِعَادَةُ لَا فِي الْوَقْتِ وَلَا بَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَجَبَتْ فِيهِ وَبَعْدَهُ؛ لِأَنَّ مَا وَقَعَ فَاسِدًا لَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا بِمُضِيِّ الْوَقْتِ، وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْفَسَادَ مَوْقُوفٌ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي ثَانِي الْحَالِ كَمَا مَرَّ فِي مَسْأَلَةِ التَّرْتِيبِ اهـ.
هَذَا وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّ مُرَادَهُمْ مِنْ عَدَمِ الْجَوَازِ عَدَمُ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْفَسَادِ وَالْبُطْلَانِ فِي الْعِبَادَاتِ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا فِي الْهِدَايَةِ حَيْثُ قَالَ وَمَنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي الطَّرِيقِ لَمْ يُجْزِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعَلَيْهِ إعَادَتُهَا مَا لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يُجْزِئُهُ وَقَدْ أَسَاءَ. اهـ.؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَمْ يُجْزِهِ مِنْ الْإِجْزَاءِ لَا مِنْ الْجَوَازِ وَاَلَّذِي يُطْلَقُ عَلَى الْحِلِّ الثَّانِي لَا الْأَوَّلُ، وَقَوْلُ الْمُؤَلِّفِ وَلَوْ كَانَتْ بَاطِلَةً إلَخْ جَوَابُهُ مَا عَلِمْت مِنْ أَنَّ الْبُطْلَانَ غَيْرُ بَاتٍّ بَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا نَقَلَهُ عَنْ الظَّهِيرِيَّةِ وَتَنْظِيرُهُ بِمَنْ تَرَكَ الظُّهْرَ إلَخْ فَإِنَّ الْبُطْلَانَ فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ غَيْرُ بَاتٍّ نَعَمْ ظَاهِرُ مَا فِي النِّهَايَةِ يُوَافِقُ مَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ حَيْثُ نَظَرَ وُجُوبَ الْإِعَادَةِ هُنَا بِمَا إذَا صَلَّى