للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَعَ أَنَّ مُطْلَقَ لَفْظِ الْمُشْرِكِ إذَا ذُكِرَ فِي لِسَانِ أَهْلِ الشَّرْعِ لَا يَنْصَرِفُ إلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِنْ صَحَّ لُغَةً فِي طَائِفَةٍ أَوْ طَوَائِفَ لِمَا عُهِدَ مِنْ إرَادَتِهِ بِهِ مَنْ عَبَدَ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ مِمَّنْ لَا يَدَّعِي اتِّبَاعَ نَبِيٍّ وَكِتَابٍ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ، وَفِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ لَفْظَ الْمُشْرِكِ يَتَنَاوَلُ أَهْلَ الْكِتَابِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ اسْمَ الْمُشْرِكِ مُطْلَقًا لَا يَتَنَاوَلُهُ لِلْعَطْفِ فِي الْآيَةِ. ثُمَّ الْمُشْرِكُ ثَلَاثَةٌ: مُشْرِكٌ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَمُشْرِكٌ بَاطِنًا لَا ظَاهِرًا كَالْمُنَافِقِينَ وَمُشْرِكٌ مَعْنًى كَأَهْلِ الْكِتَابِ، فَفِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف: ١٩٠] الْمُرَادُ مُطْلَقُ الشِّرْكِ، وَكَذَا فِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: ٤٨] فَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْكُفَّارِ وَفِي قَوْلِهِ {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: ٢٢١] الْمُرَادُ بِهِ الْمُشْرِكُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَهُوَ الْوَثَنِيُّ فَلَا يَتَنَاوَلُ أَهْلَ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقِينَ اهـ. وَأَطْلَقَهُ أَيْضًا فَشَمِلَ الْكِتَابِيَّةَ الْحُرَّةَ وَالْأَمَةَ.

وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى حِلِّ الْحُرَّةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي حِلِّ الْأَمَةِ كَمَا سَيَأْتِي هَذَا، وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ كِتَابِيَّةً وَلَا يَأْكُلَ ذَبَائِحَهُمْ إلَّا لِضَرُورَةٍ وَفِي الْمُحِيطِ يُكْرَهُ تَزَوُّجُ الْكِتَابِيَّةِ الْحَرْبِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فَيَنْشَأُ عَلَى طَبَائِعِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَيَتَخَلَّقُ بِأَخْلَاقِهِمْ فَلَا يَسْتَطِيعُ الْمُسْلِمُ قَلْعَهُ عَنْ تِلْكَ الْعَادَةِ. اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمِيَّةَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ نَهْيٍ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّهَا فِي رُتْبَةِ الْوَاجِبِ وَفِي الْخَانِيَّةِ تَزَوُّجُ الْحَرْبِيَّةِ مَكْرُوهٌ فَإِنْ خَرَجَ بِهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بَقِيَ النِّكَاحُ اهـ.

وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى أَنَّهُ يَحِلُّ وَطْءُ الْكِتَابِيَّةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَسَيَأْتِي أَنَّ الْكِتَابِيَّةَ إذَا تَمَجَّسَتْ فَإِنَّهُ يَنْفَسِخُ نِكَاحُهَا مِنْ الْمُسْلِمِ بِخِلَافِ الْيَهُودِيَّةِ إذَا تَنَصَّرَتْ أَوْ عَكْسُهُ.

وَذَكَرَ الْإِسْبِيجَابِيُّ أَنَّ لِلْمُسْلِمِ مَنْعَ الذِّمِّيَّةِ إذَا تَزَوَّجَهَا مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ وَلَيْسَ لَهُ إجْبَارُهَا عَلَى الْغُسْلِ مِنْ الْحَيْضِ وَالْجَنَابَةِ وَفِي الْخَانِيَّةِ مِنْ فَصْلِ الْجِزْيَةِ مِنْ السِّيَرِ: مُسْلِمٌ لَهُ امْرَأَةٌ ذِمِّيَّةٌ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ حَلَالٌ عِنْدَهَا وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا عَنْ اتِّخَاذِ الْخَمْرِ فِي الْمَنْزِلِ اهـ.

وَهُوَ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ حَلَالًا عِنْدَهَا لَكِنَّ رَائِحَتَهَا تَضُرُّهُ فَلَهُ مَنْعُهَا كَمَنْعِ الْمُسْلِمَةِ مِنْ أَكْلِ الثُّومِ وَالْبَصَلِ، وَلِذَا قَالَ الْكَرْكِيُّ فِي الْفَيْضِ قُبَيْلَ بَابِ التَّيَمُّمِ: إنَّ الْمُسْلِمَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ زَوْجَتَهُ الذِّمِّيَّةَ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ كَالْمُسْلِمَةِ لَوْ أَكَلَتْ الثُّومَ وَالْبَصَلَ وَكَانَ زَوْجُهَا يَكْرَهُ ذَلِكَ، لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا اهـ. وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ كَمَا لَا يَخْفَى.

(قَوْلُهُ) (وَالصَّابِئَةُ) أَيْ وَحَلَّ تَزَوُّجُهَا أَطْلَقَهُ وَقَيَّدَهُ فِي الْهِدَايَةِ بِقَوْلِهِ: إنْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِدِينِ نَبِيٍّ وَيُقِرُّونَ بِكِتَابِ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِنْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَلَا كِتَابَ لَهُمْ لَمْ تَجُزْ مُنَاكَحَتُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ، وَالْخِلَافُ الْمَنْقُولُ فِيهِ مَحْمُولٌ عَلَى اشْتِبَاهِ مَذْهَبِهِمْ، فَكُلٌّ أَجَابَ عَلَى مَا وَقَعَ عِنْدَهُ، وَعَلَى هَذَا حَلَّ ذَبِيحَتُهُمْ اهـ.

وَصَحَّحَهُ أَيْضًا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ لَكِنَّ ظَاهِرَ الْهِدَايَةِ أَنَّ مَنْعَ مُنَاكَحَتِهِمْ مُقَيَّدٌ بِقَيْدَيْنِ: عِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ وَعَدَمِ الْكِتَابِ، فَلَوْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَلَهُمْ كِتَابٌ تَجُوزُ مُنَاكَحَتُهُمْ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ زَعَمُوا أَنَّ عِبَادَةَ الْكَوَاكِبِ لَا تُخْرِجُهُمْ عَنْ كَوْنِهِمْ أَهْلَ الْكِتَابِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ إنْ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا حَقِيقَةً فَلَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَإِنْ كَانُوا يُعَظِّمُونَهَا كَتَعْظِيمِ الْمُسْلِمِينَ لِلْكَعْبَةِ فَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ كَذَا فِي الْمُجْتَبَى وَفِي الْكَشَّافِ أَنَّهُمْ قَوْمٌ عَدَلُوا عَنْ دِينِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَعَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ مِنْ صَبَا إذَا خَرَجَ مِنْ الدِّينِ.

(قَوْلُهُ) (وَالْمُحْرِمَةُ وَلَوْ مُحْرِمًا) أَيْ حَلَّ تَزَوُّجُهَا وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ مُحْرِمًا لِحَدِيثِ الْجَمَاعَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ» زَادَ الْبُخَارِيُّ «وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ وَمَاتَتْ بِسَرِفَ» ، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ مِنْ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ فَلَمْ يَقْوَ قُوَّةَ هَذَا فَإِنَّهُ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ السِّتَّةُ وَحَدِيثُ يَزِيدَ لَمْ يُخَرِّجْهُ الْبُخَارِيُّ وَلَا النَّسَائِيّ وَأَيْضًا لَا يُقَاوَمُ بِابْنِ عَبَّاسٍ حِفْظًا وَاتِّفَاقًا، وَقَدْ أَطَالَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ فِي وُجُوهٍ تُرَجِّحُهُ وَذَكَرُوا تَرْجِيحَهُ فِي الْأُصُولِ مِنْ بَابِ الْبَيَانِ فِي تَعَارُضِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ

ــ

[منحة الخالق]

(قَوْلُهُ كَمَنْعِ الْمُسْلِمَةِ مِنْ أَكْلِ الثُّومِ وَالْبَصَلِ) مُفَادُهُ أَنَّ لَهُ مَنْعَهَا مِنْ شُرْبِ الدُّخَانِ الْمَشْهُورِ فِي هَذَا الزَّمَانِ حَيْثُ كَانَ يَضُرُّهُ.

(قَوْلُهُ وَقَيَّدَهُ فِي الْهِدَايَةِ بِقَوْلِهِ إنْ كَانَ إلَخْ) قَالَ فِي النَّهْرِ مَا فِي الْهِدَايَةِ لَيْسَ تَقْيِيدُ الْإِطْلَاقِ مَا فِي الْكِتَابِ بَلْ هُوَ تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ وَالْخِلَافُ الْمَنْقُولُ إلَخْ.

<<  <  ج: ص:  >  >>