نقول هذا ونحن نعرف أن النصارى منذ أن استقرت عقائدهم الحاضرة في المسيح نتيجة لقرارات مجمعية متعاقبة أخذت تنعقد منذ القرن الرابع بعد الميلاد بسبب ما كان من خلاف شديد بين رجال الدين النصراني يؤولون الأقوال المروية عن لسان عيسى عليه السلام مما ذكرناه وما لم نذكره تأويلات متّسقة مع عقائدهم.
ولكن التمعن والإنصاف لا يمكن إلا أن يجعل للمدى المستلهم من أقوال عيسى عليه السلام صحته ووجاهته.
وإلى هذا فإن في كتب التاريخ المسيحية القديمة ما يفيد أنه كان في أيدي النصارى الأولين الذين كانوا يعتقدون بعقائد متفقة مع هذا المدى أناجيل يستندون إليها أبيدت. وأنهم كانوا يصفون الأناجيل الأخرى بالتحريف والتزوير «١» . وأنه كان في هذه الأناجيل صراحة وتطابق أكثر مع ما جاء القرآن.
والدليل القطعي على ذلك ما حكته بعض آيات القرآن المكية والمدنية من إيمان أهل الكتاب وأهل العلم والنصارى ومنهم قسيسون ورهبان بنبوة النبي ورسالته وصدق القرآن وكونه منزلا من الله عز وجل مما أوردناه في سياق تفسير آية سورة الأعراف [١٥٧] . وقد جاء في بعضها أنهم آمنوا لأنهم سمعوا من النبي ما عرفوا أنه الحق.
ولقد كانت محتويات الأناجيل التي كان النصارى يتداولونها في عصر النبي وما قبله معروفة لدى السامعين العرب أو نبهائهم على الأقل، لأنه كان في مكة جاليات كتابية ونصرانية تتداولها، كما كان الذين يقومون بالرحلات الصيفية والشتوية يتصلون بالكتابيين والنصارى في الأقطار التي كانت النصرانية سائدة فيها مثل بلاد الشام ومصر والعراق واليمن فيعرفونها عن طريقهم أيضا.
وهكذا يتسق أسلوب القصة القرآنية مع أسلوب القرآن العام في إيراد ما هو معروف من الأحداث لتكون الحجة أقوى وألزم. وهذا في فصل سورة مريم الذي نحن في صدده أشد قوة حيث تهيب الآيات التعقيبية الأخيرة بالسامعين إلى وجوب
(١) انظر المجلد ٤ الجزء ٢ من كتاب تاريخ سورية للمطران الدبس.