ولقد احتوى القرآن آيات عديدة مكية ومدنية نوهت بالذين أوتوا العلم والكتاب، وبتصديقهم بالنبي صلى الله عليه وسلم والقرآن واعتناقهم والإسلام وإعلانهم انطباق ما جاء في القرآن على ما عرفوا من الحق أوردناها في سياق تفسير آية سورة الأعراف [١٥٧] . وهذا يسوغ القول إن النصارى الذين كانوا في مكة وفي المدينة أو الذين وفدوا على مكة والمدينة من أنحاء أخرى ليستطلعوا خبر النبي صلى الله عليه وسلم ويستمعوا منه ويناظروه قد وجدوا في ما قرره القرآن عن شخصية عيسى عليه السلام تفسيرا معقولا صحيحا متطابقا لما كانوا عليه أو مقاربا، ومنقذا لهم مما هم فيه من بلبلة وخلاف وتشاد، فكان ذلك سببا في استجابتهم للدعوة باندفاع وفرح وخشوع، وتأييدهم لها على ما جاء في الآيات القرآنية. بل إن فيما قيده التاريخ من مسارعة كثير من النصارى في بلاد الشام والعراق ومصر في أدوار الفتح الإسلامي الأولى إلى اعتناق الإسلام عن طيبة خاطر، واستمرار ذلك بدون انقطاع عبر قرون التاريخ الإسلامي، ما يمكن أن يكون قرينة على هذا أيضا. والثابت تاريخا أن غالبية نصارى بلاد الشام ومصر والعراق من اليعقوبيين والنسطوريين الذين كانوا يعتقدون بأن المسيح ذو طبيعة واحدة مزيجة من الناسوتية واللاهوتية، وأنه غير متساو لذلك مع الله الأب. أو أنه إنسان حلّ فيه اللاهوت، فصار هيكلا لله، وأنه لا يجوز بسبب ذلك أن تسمى مريم أمّا لله إلخ. وكانوا موضع اضطهاد ومطاردة من السلطات الرومانية التي كانت صاحبة الحكم وكانت تدين بعقيدة ثنائية الطبيعة في المسيح. فكان التقارب بين ما يقرره القرآن وما يعتقده غالب النصارى في هذه البلاد مما سهل عليهم التحول إلى الإسلام حيث انضوى إليه أكثريتهم الساحقة خلال القرنين الأول والثاني الهجريين «١» .
والدليل على أن ذلك تمّ بطيبة خاطر ورغبة وقناعة هو في احتفاظ من أراد
(١) انظر كتاب الدعوة إلى الإسلام تأليف أرنولد توماس وترجمة حسن إبراهيم وعبد المجيد عابدين طبعة ثانية ص ٦٣- ١٥٣ والصحف التي ذكرناها من المجلدين ٣ و ٤ من تاريخ سورية للمطران الدبس وكتاب فتح مصر لبتر تعريب فريد أبو حديد ص ٣٨٤، ٣٨٥ وتاريخ الجنس العربي للمؤلف الجزء ٢ ص ٣٣٣ وما بعدها والجزء ٤ ص ٣١٦ وما بعدها.